لم تكن الطائرة المسيرة التابعة لسلاح الجو الإيطالى التى أسقطتها دفاعات الجيش الوطنى الليبى فوق مدينة ترهونة على بعد مائتى كيلو مترا إلى الجنوب من شمال الساحل الليبى سوى أحد مظاهر سعى بعض الأطراف الدولية والإقليمية لإفشال مؤتمر برلين الذى دعت ألمانيا قبل أكثر من شهرين إلى عقده لحل الأزمة الليبية.
ورغم تأكيد رئيس الوزراء الإيطالى جوزيبى كونتى الاثنين الماضى تعاون بلاده مع ألمانيا لإنجاح مساعى عقد المؤتمر؛ إلا أنه بدا خلال تصريحاته شامتا في عدم قدرة المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل على جمع الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بليبيا، حيث أشار إلى النجاح الذى حققته روما في مؤتمر باليرمو قبل سنوات، مع أن مخرجات باليرمو لم تنجح في صياغة رؤية لحل الأزمة.
ربما بالغ المبعوث الأممى إلى ليبيا غسان سلامة في تفاؤله بشأن توصل مؤتمر برلين إلى حل ينهى الصراع الدائر بين الأطراف على حسب تعبيره ونجاح المؤتمر في تشكيل لجنة دولية تدعم جهود الأمم المتحدة لإنهاء القتال والتوصل إلى تسوية سياسية.
وتبدو مبالغة سلامة مقصودة ومتسقة مع توصيفه لطبيعة الحرب الدائرة حول العاصمة طرابلس، وهو ذات التوصيف الذى على أساسه تسعى ميركل لجمع الأطراف الدولية والإقليمية لعقد مؤتمر برلين؛ حيث يصر سلامة والأطراف صاحبة المصالح المتناقضة في ليبيا على توصيف حرب تحرير العاصمة من الجماعات الإرهابية كونها صراعا سياسيا بين أطراف محلية تتنازع السلطة على طرابلس.
إقدام الدفاعات الجوية الليبية على إسقاط الطائرة الإيطالية المسيرة جاء على ما يبدو في إطار الرؤية السياسية للقيادة العامة للجيش الوطنى الليبى بشأن التعامل مع ازدواجية المجتمع الدولى تجاه الجماعات الإرهابية، ليوجه رسالة استباقية إلى المنخرطين في المشاورات التحضيرية لمؤتمر برلين، مفادها أن بعض الأطراف التى تدعى سعيها لإنجاح المؤتمر تعمل على قدم وساق لإفشاله حتى قبل أن ينعقد، وذلك بدعمها اللوجستى والعسكرى المباشر للإرهابيين في طرابلس.
ويدلل على تعمد الجيش الليبى إسقاط الطائرة الإيطالية، البيان الذى أصدره لاحقا والذى تضمن معلومات تفصيلية ودقيقة عن الفرقة التى تنتمى إليها الطائرة وقاعدة انطلاقها من جنوب إيطاليا، وعدم اعتراف المتحدث الرسمى باسم الجيش الوطنى الليبى اللواء أحمد المسمارى ببيان وزارة الدفاع الإيطالية التى أشارت فيه إلى أن الطائرة كانت في مهمة ضمن عملية البحر الآمن ؛ وإصراره على مطالبة روما بتقديم توضيح حول طبيعة مهمة الطائرة الحربية وسبب تواجدها على بعد 200 كيلو متر من سواحل البحر المتوسط.
ووفقا لمصادر وتقارير ليبية عديدة، توفر إيطاليا دعما لوجيستيا للميليشيات الإرهابية التابعة لحكومة فائز السراج على المستوى الميدانى بإمدادها بالإحداثيات الخاصة بمناطق تحرك وتمركز قوات الجيش الوطنى الليبى، وكذلك من خلال تقديم التسهيلات للسفن التركية التى ترسو في ميناء مصراتة محملة بالأسلحة والذخائر والمدرعات علاوة على العناصر الإرهابية؛ ويشار في هذا السياق إلى أن السلاح الجوى الليبى نجح في تدمير 19 مدرعة تركية جاءت على متن سفينة مدنية رست في ميناء مصراتة، المدينة التى يتواجد فيها نحو ألف عسكرى إيطالى يعمل بعضهم إلى جانب ضباط أتراك في غرف التحكم عن بعد بالطائرات المسيرة.
وبالعودة إلى مؤتمر برلين تواجه ألمانيا صعوبات حول جمع الأطراف الدولية والإقليمة المعنية للتوافق على انعقاد المؤتمر بسبب تضارب مصالح تلك الأطراف في ليبيا والذى يعكسه التباين الحاد بينها في توصيف طبيعة الحرب الدائرة على تخوم العاصمة.
وقد حاولت حكومة الميليشيات بزعامة فائز السراج إستغلال هذه الوضعية المعقدة للاصطياد في الماء العكر، حيث أرسلت وفدا إلى واشنطن الأسبوع الماضى التقى بممثلين عن وكالات حكومية أمريكية وفيما يبدو من خلال بيان الخارجية الأمريكية أنه نجح في إقناع واشنطن بأن روسيا تمثل تهديدا حقيقيا لمصالح الولات المتحدة في ليبيا بدعمها للجيش الوطنى الليبي.
ولاحقا طار وفد أمريكى إلى بنغازى ليعرب بعد لقائه بالمشير خليفة حفتر عن قلقه من توسع «النفوذ الروسي»؛ لكن اللافت في اجتماعات بنغازى أن الطرفين الأمريكى والليبى قد اتفقا على إيجاد آلية تنسيق بين الجيش الوطنى الليبى وقوات «أفريكوم» الأمريكية في عمليات مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى التنسيق الجوى لتفادى إسقاط طائرات أمريكية في المستقبل بعد استهداف الدفاعات الجوية الليبية لطائرة تابعة لأفريكوم في سماء طرابلس نهاية الأسبوع الماضى.
ورغم المخاوف الأمريكية من مزاعم تمدد التواجد الروسى التى يشكل أحد العوائق الأساسية لانعقاد مؤتمر برلين إلا أن التفاهمات العسكرية بين الجيش الليبى وقوات أفريكوم تؤكد من ناحية استقلال قرار وإرادة الجيش الليبى بعيدا عن أى طرف دولى أو إقليمى، ومن ناحية أخرى استمرار التوافق بين رؤية القيادة العامة للجيش الوطنى الليبى والرؤية الأمريكية حول إستراتيجية مكافحة الإرهاب.
ويمثل الموقف الليبى أحد أهم التحديات التى تواجه مؤتمر برلين حتى حال انعقاده، وهو ما برز في بيان الجيش الوطنى بشأن المؤتمر حيث أوضح انه لن يكتب النجاح لأى مسار سياسى طالما بقيت الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة تسيطر على العاصمة وطالب مؤتمر برلين بالعمل على أن تكون أحد أهم مخرجاته توصيف واضح وصحيح للجماعات والميليشيات التى يقودها فائز السراج.
ويعكس هذا البيان ما سبق وأكده الجيش الليبى أكثر من مرة على أن ما يجرى في العاصمة حرب تحرير، وليس صراعا سياسيا.
كذلك يقف مجلس النواب الليبى «الهيئة الشرعية المنتخبة في البلاد والمعترف بها دوليا» عائقا رئيسيا أمام إمكانية نجاح هذا المؤتمر طالما لم يتوافق المجتمع الدولى حول توصيف الحرب الدائرة في البلاد، لا سيما أن ألمانيا تقصر دعوتها على الأطراف الدولية والإقليمية دون مشاركة البرلمان الليبى بوصفه الجهة الشرعية والسياسية الوحيدة الممثلة للبلاد والمنوط بها رسم خارطة طريق أى تسويات سياسية مستقبلة بعد تحرير العاصمة، وهو الموقف الذى تصر عليه دول إقليمية مهمة على رأسها الدولة المصرية.
ويبقى أن المعطيات العسكرية هى من سيفرض كلمة الفصل، بعد فرض الجيش الليبى سيطرته على أكثر من 90% من مساحة البلاد وهيمنته الكاملة على مناطق الوسط والجنوب علاوة على فرضه الحظر الجوى على كامل المنطقة الغربية حتى حدود تونس.