قد يعتقد البعض أن الشعر ابتعد كثيرا عن حياتنا، حلت محله الأشكال البصرية من الفنون الأخرى، في ظل الثورات المبهرة التى تخاطب العين، وتخطف الذهن بجمالياتها، التى تندمج معا وتتضافر، لتعطى أقصى طاقة جمالية، يمكن أن تجتمع في حالة فنية. لنا أن نتصور كم الجماليات التى تجتمع في مشهد سينمائي، يصور منجما يتهدم وبه عمال، وأصوات الديناميت والغبار يتراكم، الموسيقى تهدل بما يخطف أذاننا، ويوجع مشاعرنا في ذات الوقت. أو مشهد آخر، لسهول فسيحة خضراء قرب الغابة وفتاة جميلة تذهب لتجمع فطر عيش الغراب أو التوت البري، وحينما تتعب تجلس قرب النبع وتغسل قدميها في مائه، بينما عصافير ملونة، وفراشات وموسيقى ناعمة، تنساب لتهدئ روحنا أمام الشاشة ولنا أن نتصور مثلا مشهدا في مدينة بعماراتها الشاهقة البارزة كرماح من الأسمنت، تريد أن تخترق السحب البيضاء، غارسة نصالها في قلب الزرقة بينما يتوزع أشخاص، في الشرفات التى تبدو كعلب الكبرىت المتراصة، فوق بعضها البعض وأصوات سيارات وبشر يسيرون كنقاط متحركة تشبه الدبابيس على الأرض، وتصدح موسيقى سريعة تشبه التعب اليومى وقلقة مثل حالتنا النفسية، ونحن نمضى في دائرة كسب عيشنا كما نقول. قد يبدو الأمر حقيقيا للوهلة الأولى إذا نظرنا لما هو مطبوع في ذهننا عن الشعر. الشعر الكلاسيكى الذى تربى عليه وجداننا ودرسناه حتى المرحلة الثانوية بعصوره المختلفة وجمالياته المختلفة أو ما نطالعه من آن لآخر في بعض الدوريات، فالمطبوع في أذهاننا، هو العمود الشعرى المتعارف عليه ولعل كثيرين منا مثلى تماما لا ينسون أبدا» مكر مفر مقبل مدبر معا - كجلمود صخر حطه السيل من عل» أو وصف الحصان لأمرئ القيس الذى انتقى فيه من الصفات «له أيطلا ظبى وساقا نعامة - وإرخاء سرحان وتقريب تنفل. هذا البيت من عظم الشعر وهو من أجمل أبيات اللغة العربية للملك الضليل امرؤ القيس إذ جعل في حصانه صفات أسطورية فجعل له أيطلا الظبى أى خاصرتيه وهذا لأن الغزال، أطول الحيوانات وأحلاها خصرا وجعل له ساقا النعامة، وجعل له إرخاء السرحان، والسرحان هو الذئب والإرخاء هو ضرب من ضروب جرى الذئب، وجعل له تقريب التنفل، والتنفل، هو ابن الثعلب. والتقريب هو وضع الرجلين موضع اليدين عند العدو. الحقيقة أن الشعر رديف الحياة يتحرك مع حركتها ويصاحب إيقاعها لكن طبيعة الأمر تحتاج إلى عين فاحصة أو قارئ مواكب قادر على قبول ذائقة التغيير، انتقلنا من عمود الشعر إلى التفعيلة فكان عبدالصبور وأمل دنقل ومن معهما من شعراء الستينيات وكانت الدفقة الشعورية التى لا تنتظم في عدد الشطرات، إذ لا يوجد بيت، ثم جاءت فترة السبعينيات بقصيدتها التى تعتمد كثيرا على الرمزية لظروف عاشتها على المستوى الاجتماعي والسياسي. أطال الله في عمر شعرائها. واستمر الأمر كنهر متدفق مجراه هو الحياة لتبرز قصيدة النثر في التسعينيات. القصيدة التى تخلت عن جماليات تعارفنا عليها وبرزت بجماليات أخرى لم يعتدها القارئ ولم يتعرفها فلا موسيقى، ولا حكمة يمتلكها شاعرها، ولا برجا عاجيا يجلس فيه بعيدا عن القارئ ولا هو الحكيم أو نبى الشعر. لذا هوجمت ورفضت لكنها ثبتت ونمت وقاومت وعرفت الطريق إلى قارئها ببساطة، لأنها قصيدته وهى همومه وهى آماله وهى فرحه، إنها التواضع المتأنق للجمال والجمال الذى يتشاركه الشاعر والقارئ الذى يسير معه في الحياة كتفا بكتف، يناقش معه عاداته اليومية أو ذكريات طفولته أو وجعه من اليومى والمعاد والمكرر أو يحلم معه. إنها القصيدة التى تسمح لقرائها بأن يفهموها بأكثر من وجه وأكثر من مستوى كماسة يسقط القارئ عليها ضوءه الخاص فتشع بريقا خاصا به دون غيره فلكل ضوءه الخاص وتردد ثقافته وعلاقته المشتبكة مع الحياة. كنموذج لهذه القصائد كان ديوان البيوت الصغير للشاعر أمجد ريان الأكاديمى الذى يرفض لقب دكتور، لأن إنسانيته وتواضعه هما خياراته. في الديوان الذى تمت مناقشته في ورشة الزيتون تعرفنا على بطل القصائد الذى هو شخص يشبه كل واحد فينا الشخص الذى يحن إلى كل ما كان جميلا في طفولتنا ويقارن بينه وبين ما حولنا من مسوخ. البنايات والعلاقات، علاقات الطفولة والحب والجيرة والأمومة، ويفتح باب الحنين من عين طفل ومنظور كهل يتأمل ما حوله ويرصده ليرينا الجمال ويشاركنا دفء البيوت وقطع الأثاث ورائحة الطبخ وأحلام الحب وبراءة الطفولة وألعابها. فمن منا لا يغمض عينه ويتذكر كل ذلك ومن منا من لم يأخذه الحنين إلى كل ذلك ومن منا من لا يحب كل ذلك. هكذا ببساطة يترقرق الشعر ويأخذنا معه في تياره الهادئ رغم جدية ما يناقشه ومن منا لا يطرب بقصيدة عبرت إلى جماليات السينما في التصوير وصاحبتها الأصوات في الشارع الذى يطل عليه كاتبها والضوء الذى يدخل من الشباك ويسقط على قطع الأثات أو ينعكس في المرايا، كل ذلك وأكثر في الشعر الذى لم يبتعد ولم يتجمد بل سار ونما وتجدد وينتظر قراء كثيرون ليعيدوا اكتشافه.
آراء حرة
ليس الشعر ببعيد في بيوت أمجد ريان الصغيرة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق