لا اعتراض لدينا على حق نواب البرلمان في تقديم مشروعات قوانين، فهذا دورهم ضمن أدوار أخرى ينظمها الدستور والقانون، لكن ذلك لا يمنعنا من مناقشة هذه الاقتراحات، وخاصةً تلك التى لاتتعلق بالقضايا المهمة والمشكلات الخطيرة وكيفية مواجهة تلك التحديات الخطيرة التى يواجهها الوطن.
بعض مشروعات القوانين تجنح للشكل ولا علاقة لها بتلك القضايا التى يعانى منها وبسببها الشارع المصري، ومن بين هذه القضايا المثارة مشروع قانون يحدد ماذا يرتدى المواطن والمواطنة من الملابس التى لا تخدش الحياء والتى تتوافق مع الذوق العام حسب رؤية النائبة. ولا ندرى من ذاك الذى يحدد لنا هذا الخدش ومن هو الذى يوضح لنا ذلك الذوق الذى يختلف من شخص لآخر حسب الرؤية والمصلحة والثقافة... إلخ، ومن هذه المشروعات بقوانين، مشروع تجريم ما يسمى الإساءة للرموز الوطنية أو الدينية... إلخ، وهنا بدايةً لا بد أن نحدد جيدًا ما هى الرموز؟ وما هى حدود تلك الإهانة أو الإساءة؟ كل شخص له رؤيته الخاصة في الاقتناع بهذه الرموز سواء كان رمزًا دينيًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا أو في أى مجال آخر، فمن هو رمز لى ليس بالضرورة يجب أن يكون رمزًا للآخر وهذا شيء طبيعى يتسق مع حرية الرأى وحرية الاختيار، وكما أن هذا الاقتناع بهذا الرمز يعنى أن شخصيته وتاريخه ومواقفه وأقواله وأفعاله يرضى عنها ويقبلها ويؤمن بها الشخص، حيث إنها تتوافق مع رؤية وقناعة ومواقف الشخص القابل والمقتنع بهذا الرمز، فأنا ناصرى أعتبر عبدالناصر رمز الرموز وهناك غيرى يعتبر عبدالناصر نقيض ذلك وله كل الحرية فيما يرى، ولهذا لا يجب أن نفرض هذه الرموز لمجرد أنها قد نالت في لحظة تاريخية ظهورًا إعلاميًا أو تواجدًا اجتماعيًا أو كان لها موقف سياسى يتوافق مع المعطيات السياسية حين حدث هذا الموقف أو قامت بدور دينى كانت له ظروفه ومعطياته التى حددت هذا الدور، فيمكن أن أقبل هذا الرمز في موقف معين أو رؤية بذاتها وفى نفس الوقت أرفض آراء أخرى ومواقف متعددة لنفس الشخصية، فهل هذا الرفض يعنى الإساءة؟ وهل عدم الإساءة تعنى التقديس لغير المقدس؟ وهنا ما هى الإساءة؟ هل إبداء الرأى بموضوعية وعلمية إساءة؟ هل ذكر وتأكيد لموقف قد حدث من هذا الرمز لا يتوافق مع مجمل مواقفه إساءة؟ وهل التزكير بمواقف تتناقض مع مجمل مواقف ذلك الرمز تعتبر إساءة؟ خاصةً إذا كانت هذه المواقف وتلك الرؤية وذلك الرأى موثق ويمكن الرجوع إليه والوثوق من حجته والبحث فيه دون حجر، أم أن الأمر يتطلب الخلط بين الرأى والتعبير عنه بحرية وبين الإساءة التى جرمها القانون وهذه محددة وواضحة وتخص كل مواطن بلا استثناء ولا تقتصر على هذه الرموز؟ الإشكالية هنا أننا كمصريين قد ورثنا في الضمير الجمعى منذ القدم التقديس بشكل عام والخلط بين ما هو مقدس مع ما هو غير مقدس ونتعامل مع كل الأشياء خاصة الموروثة أو التى حدث عليها إجماع حتى لو كان هذا الإجماع تم عن طريق العاطفة ودغدغة العواطف الدينية والسياسية على أنها مقدسة، في الوقت الذى لا يجب أن يكون هناك مقدس لغير المقدس، فلا بشر معصمون من الخطأ فالجميع في الموازين إلى فوق والجميع سيحاسب وقابل للخطأ وللنسيان وللسهو، كما أن ما نعتبرهم رموزًا دينية نضفى عليهم قداسة شعبوية لا علاقة لها بصحيح الدين ولا بمقاصده العليا، ولذلك فما هى الخطئية عندما نناقش ما يسمى بالرمز الدينى في مواقفه وفى تاريخه؟ هل نعتبر كل ما قيل وما يقال دون فحص أو تحليل أو إبداء رأى؟ ولو حدث هذا يكون إساءة؟! فمثلًا نحن جيل تربينا على أن عرابى قام بثورة في 9 سبتمبر 1881 ضد الخديو توفيق، وهو راكبًا حصانه موجهًا الخديو قائلًا «لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا عبيدًا أو تراثنًا» نعم نحن قد تأثرنا بهذا الموقف وتشكلنا بسيرة هؤلاء الزعماء «عرابي، مصطفى كامل، سعد زغلول، جمال عبدالناصر» بل كانت سيرة هؤلاء أحد الطرق التى ربت فينا الانتماء لهذا الوطن العزيز الغالي، ولكن هل هذا يعنى أن نقدس هؤلاء؟ أو لو أبدينا رأيًا في بعص أفكارهم أو تصرفاتهم نكون قد أسأنا ؟ وبعد إعادة قراءة التاريخ وهو شيء مطلوب طوال الوقت حيث إن التاريخ لا يعنى لحظة التأريخ بل يعنى استمرارية القراءة برؤى مختلفة وبقراءات متطورة ومن خلال مواقف متباينة حتى نصل إلى شبه الحقيقة بعيدًا عن المكتوب في ظروف معينة ولأغراض معينة لا علاقة لها بصحيح التاريخ، ولذا قد رأينا أن السيرة الذاتية التى كتبها عرابى والتى صورها حسب رؤيته أو أمانيه الضائعة في مذكراته «كشف الستار عن الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية» وقد نفى المؤرخ يونان لبيب رزق تفاصيلها ونفى أن يكون عرابى قد رد على الخديو بهذه العبارة التى أصبحت أيقونة ثورية، فالرافعى في «الثورة العرابية» وسليم النقاش في «مصر للمصريين» والمؤرخ ميخائيل شاروبيم قالوا إن الخديو قال لعرابى وصحبه «ما لكم قد نبذتم طاعتى وعصيتم أمرى؟» فقال «حاشا نحن عبيدك المخلصون» فقال «انصرفوا وسأبذل جهدى في تحسين أحوال العسكرية» فأجاب عرابى «إنى وإخوانى وجميع الضباط خاضعون لك يا مولاى ولكنا لا نبرح من هذا الموقف حتى ننجز ما طلبناه» فقال له الخديو «رد سيفك إلى غمدك»، فأجاب «سمعًا وطاعة»، فهل أسأنا لعرابى في هذا؟، ولو فعلنا ذلك وبنفس المنطق مع مصطفى كامل وسعد زغلول وعبدالناصر والبابا شنودة والشيخ الشعراوى وغيرهم وغيرهم نكون قد أسأنا؟! أم أنكم تريدون تقديس غير المقدس؟!. وهنا يكون سر البلاء والتخلف ومصادرة أى محاولة لتصحيح أى فكر دينى أو ثقافى أو سياسي. حما الله مصر وشعبها العظيم.