الشأن العام ليس مجرد أبعاد المسئولية العامة للمجتمع، فهو ليس مجرد مسئولية سياسية أو يمكن أن ننقلها من مكان لآخر وهو إحساس داخل كل أبناء الأمة فهو ليس إحساسًا على الشيوع لايمكن تحديد إطاره، وهو ليس مجرد أداة أحادية الفاعلية تحركها مصدر ثابت.
وعندما أهملنا القضية وسط الضباب الذى شكل سحابة مظلمة جعلتنا نتخبط ونفقد حاسة الرشاد إلى طريق النور لمعرفة بدايات إيقاع الحركة الصائبة بكل أمانة المسئولية الوطنية وقبل الدخول مباشرة فإنه يشرفنى أن أسطر كلمات لمن أدين بالعرفان له أستاذى الصامت الذى ابتعد عن النجومية الزائفة عم محمد فهمى عبداللطيف أحد رموز أخبار اليوم فلم يكن نجمًا بل صانع نجوم واختار أحد العمالقة ليكون في هذه المدرسة الأستاذ عبدالوارث الدسوقى فهو قيمة مضاءة لأى نجم يلتصق به ويتعلم منه ولم تقدم الصحافة المصرية في كل إصداراتها.
إن الدولة في عيد الإعلام منحته وسام الدولة الذى يستحقه وفوجئ الجميع بأن عم عبدالوارث لم يتوجه لمقر الاحتفالية لكنه توجه لمعشوقه القلم ورغم أن مذيع الحفل أعلن أمام رئيس الدولة اعتذاره لظروف مرضية وتقدم أحد المسئولين لكى يتسلمها من الرئيس تحت مظلة الاعتذار لكن الحقيقة أن الرجل كان بصحة جيدة ولم يتسلم لا في الاحتفال أو بعده.. واعترافًا بهذا العملاق سطرت الكلمات لكى أوثق بالعرفان أنه كان من جلسائه وتلاميذه المفكر خالد محمد خالد وقد منحنى شرف أن أحظى بزيارات اعترف أنها شرف عظيم لي.
خالد محمد خالد المفكر العملاق الكبير صاحب الفضل أن أتعرف عليه في مدرسة عبدالوارث الدسوقي، فمن المواقف العملاقة المواجهة التاريخية مع الرئيس عبدالناصر باجتماعات اللجنة التحضيرية التى انعقدت 1962م حول الميثاق الوطنى والذى يقرأ ويطالع الحوار وأسماء المشاركين من العمالقة يؤكد أنه حوارًا تاريخيًا حول قضية الديموقراطية، وكانت الجلسات مخصصة لكى تضع النخبة بإطار فكرى للمسألة الوطنية وتنشيط الفكر ويعكس قيمة الفكر الوطنى وقيمته لقراءة مستقبل الوطن.. وما أشبه الليلة بالبارحة فإن قيادة الدولة اختارت للأمة طرحًا أمينًا لقضية القضايا وهى الشأن العام والتوقيت الصحيح في مولد الهدى فإن الرسول الكريم أول من وضع دستورًا وهو دستور المدينة واكتملت بخطبة الوداع وهى ميثاق غليظ موجه برسالته للعالمين ولدت معها المحددات الثابتة للشأن العام بنودها في الخطبة التى شكلت البنيان الأساسى لحقوق الإنسان وليس للمسلمين فقط.
وبعيدًا عن أى مظاهر من ادعاء الحكمة أطلق أطروحة الشأن العام بحيث تكون ساحة الدعوة هى منصة الحوار وتحتضنها الصحافة برعاية الهيئة الوطنية وهو عنان لمؤسسات الاستنارة في أرقى منابرها، وقد سطرت صفحات مؤلفه القيم الدفاع عن الديموقراطية في حوار الرئيس مع المفكر خالد محمد خالد ورؤيته لمعنى ومدلول الدولة فقال بالنص «إن الأمة التى يزيف تاريخها تكون أمة بلا تاريخ.. وأمة بلا تاريخ كشجرة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.. وقد يتأثر التاريخ بتزييف وقائع حياتها بيد أن نكتبه تكون فادحة.. وكم أتمنى أن يكون هناك قانون يحاسب على إهانة الأمة ولا أعرف إهانة تزل بأمة مثل تلب مواقفها العظيمة شجب نضالها الظافر، واتخاذ تجاربها السياسية الناجحة موضع التجريح والتشهير والسخرية».
هذه كلمات خالد محمد خالد منذ نحو 57 عامًا ومسجلة وهو رجل نقى لم يسع لمنصب أو مكافأة لأن مكانته الفكرية أسمى من أى تقدير.. والسؤال هل هناك في التشريع المصرى هذه المفاهيم أكاد أجزم أن هناك ثقوبًا تشريعية لهذا الخلل ولم نسمع عن الضوابط الملحة في هذه الأرض التى تنهش في عقولنا.
الفقة الدستورى الحديث يحدد مدركات الديموقراطية التى استغلت مفهوم البرلمان ووسيلته التشريع وما تم تداوله ممثل المجلس سيد قراره وهذه العبارة لصقت ظلمًا بالدكتور الفقيه رفعت المحجوب وصحة ما ذكره.. لكن بالدستور الجديد يأتى مفهوم الشعب والأمة هى القاعدة الدستورية والأصل لأن مصر اتخذت مبدأ سيادة الشعب ويصبح القاضى الدستورى هو المفسر الأصيل لنص الدستور وليس لأى قوة تتصادم مع إرادة الأمة.
طرح الدكتور محمد العصار وزير الإنتاج الحربى كما نشرت الصحف قضية تحسن السلوك العام والإنجازات خلال السنوات الخمس السابقة واعتبرها بمثابة عبور ثان لمصر، وإذ تناول قضية السلوك فإنها تطرح على مائدة الحوار أمام أهل الفكر وهي تدق أجراس إنذار وصيحة انتباه لقضية الأخلاق والتى عرف جوانبها فيلسوف القرن الماضى الدكتور على سامى النشار فكان يعلمنا أن قواعد الأخلاق في الإسلام تتميز بمسايرتها للفطرة وتحقيقها لخير الفرد والجماعة.. فالفرد المسلم طبقًا لدستور المدينة ملتزم باختيار الفعل وفقًا للخير العام من هذا فإن صلاحيتها لكل مكان وزمان غير قابلة للنسخ أو الاستنساخ من المبادئ فهى لاتسمح بالتبديل أو التعديل وهذا المنهج لايعترف بالالتواء لذلك كما يقول الدكتور النشار «إن الالتزام الخلقى في الإسلام إلزام اختيارى غير قهرى لأن الإلزام عندما يصبح قهرًا أو مقصدًا فإنه يفقد صفة الأخلاقية فإنه صادر عن نوع من الإرهاب الفردى أو الجماعى فالإلزام جوهرى في الإسلام فهو صلب العقيدة للعالمين».
كان لى شرف أن أكون في شرف استقبال قداسة البابا شنودة الثالث عندما كنت سكرتيرًا عامًا لروتارى شرق الإسكندرية وترأس الروتارى المستشار محمد مأمون أحد رموز القضاء المصرى وقام زميل العمر الدكتور سمير فهمى والرئيس السابق لروتارى فقد دعا لأول محاضرة تذكارية لقداسة البابا شنودة بمناسبة اليوبيل الفضى ولبى البابا دعوته بكل الشرف لنا والحاضرين وبحكم موقعى حظيت أن أكون على يسار قداسة البابا مما أتاح لى لدقائق أحاديث خاطفة تعبر عن الفكر العميق لقداسته والذى اعتبره قديس العرب وكان سعيدًا أن يعرف أننى صحفى وسألته عن قضايا فكرية وفوجئت يذكر لى تفاصيل منهجية عن قيمة الدكتور على النشار وتضاعفت أننى عرفت أنه يحتفظ ليس بذاكرته لكن في مكتبه بالعديد من أهم أبحاثه، وأتصور أن هناك وثائق أرجو من الدكتور محمد مختار جمعة أن يضعها أمام جمهور المفكرين الذين يناقشون قضية الشأن العام ونجاح اللقاء الأول الذى عقد بجريدة «الجمهورية» سيكون نقطة انطلاق لأن الشأن العام يرتبط بمفهوم الوطنية والمواطنة ولايعنى أنه مفهوم على المشاع فالحوار حول مفهمومه ليس مجرد حلقات للذكر لكن في الحقيقة هو تأهيل منهجى لقواعد الفكر.
آخر حوارات العصر التاريخية التى أجراها الرئيس أنور السادات مع أساتذة جامعة الإسكندرية وإدارة المفكر العملاق الدكتور عاطف غيث رئيس نادى أعضاء التدريس للجامعة واستطاع من خلال حواراته إقناعه بصعوبة ومن خلال الحوار الساخن تأسيس مجلس مستشارين للرئيس، وفعلًا أصدر قراره بإنشاء المجلس وتولاه السياسى المخضرم المهندس سيد مرعى ولكن هذا المجلس لم تدم اجتماعاته سوى جلسة واحدة استشهد بعدها الرئيس السادات وتم دفن الفكره معه.. ودخلت في ذمة التاريخ بعد اغتيالها... ومازال الفاعل مجهولًا.