الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

«مَنْ ذاق عرف»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قديمًا قالوا «قلوب العارفين لها دليل.. ترى ما لا يراه الناظرون».. في إشارة إلى صفاء النفس المؤمنة والمخلصة، وهناك تعبير مشهور عند الصوفية، هو «من ذاق عرف»، والذى يرتبط في الأساس بالحالة الروحية والقلبية والوجدانية التى يوجد عليها الصوفى حين يستشعر لذة المناجاة مع الله والأنس به والقرب منه.. وهو من ثم يحاول الاستزادة والاغتراف من هذه اللذة وتحصيل أكبر قدر منها، ما وسعه إلى ذلك سبيلًا.. وهذه حقيقة مجردة، إذ كيف يعرف الإنسان حلاوة شىء دون أن يتذوقه ويعرف كنهه وطبيعته؟ هذا فضلًا عن أن محاولة الإنسان تذوق أى شىء يقابله تمثل فطرة أصيلة فيه.. من هنا كان التذوق عند هؤلاء علمًا وخلقًا وسلوكًا، سبيلًا إلى المعرفة، أى إلى معرفة الله والتوصل إلى إدراك عظمته وجلاله وكماله سبحانه.
والمعروف أن أسمى ما تطلبه النفس البشرية هو الشعور بالأمن والهدوء والقبول بمن حولها في مجتمعات آمنة، وكثيرا من الناس ينشدون السلام مع الآخرين، طوعًا أو كرهًا، إيمانًا بهذا المبدأ أو اضطرارًا إليه، فأما الإيمان به فهو أصل نبوى شريف يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وأما اضطرارا حتى يدفع أذى الآخرين عنه.
وما أحلى عودة الإنسان إلى فطرته الصالحة، بعدما يتجرد من غبار الدنيا ومطامعها وزينتها الخادعة إلى صفاء النفس، وسيجدها أفضل وأجمل بكثير من الانغماس في ملذات الدنيا، وذلك مقصد الصوفية عندما قال رجالها «من ذاق عرف».. وهذه ليست دعوة لترك الدنيا والانصراف عن السعى فيها، فنحن مأمورون بعمران الأرض والسعى في العمل والإنتاج، وخدمة الآخرين، ولكن هذا لا يمنع ولا يناقض ذاك، فلا بد من العمل والجد، وذلك بإخلاص وصدق نية دون مظالم أو ملء القلب بحب الدنيا.. فالقضية تحتاج منا إلى تدريب وقراءة قصص الصالحين والأولياء ومن قبلهم رسل الله وصحابتهم.
الاطمئنان والصلاح والسكينة كلها مفردات تجعل القلب آمنًا مطمئنًا حامدًا شاكرًا لأنعم ربه، سعيدًا بحياته راضيًا بقضاء الله، وهو ما يعطى صحة للبدن وسلامة من الأمراض العضوية والنفسية.. والحمد لله رب العالمين.
ومن الأشياء المحببة إلى النفس البشرية الجاه والمال والسلطان، فقد قال تعالى في سورة آل عمران «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ»، ولذلك فمن الطبيعى أن يسعى الإنسان إلى الاستزادة من هذه الأشياء.. وليس هناك ما يمنع ذلك إذا كانت الاستزادة بطرق مشروعة لا تظلم الآخرين، أما إذا كانت آتية بغير حق فهنا يكون الأمر مرفوضًا.
والسلام النفسى والذاتي، سبب مهم إن لم يكن أهم أسباب العيش برضا وسعادة وهناء وراحة بال، وهو يحتاج إلى عملية شحن للقلوب، من خلال تدريب نفسى طويل ومستمر على الثقة بالنفس، اعتمادًا على أساس الكفاءة الفنية والخبرة، وتقبل الآخرين، على أساس الكسب المشترك والمنفعة المتبادلة سواء في العمل أو المجتمع بشكل عام.. والسلام النفسي، تواصل ذاتى ونداء داخلى في قلوب البشر، يتطابق مع قوانين الطبيعة لإسعاد النفس وحمايتها من الاضطرابات والصراعات الداخلية والخارجية.. ويعتمد السلام النفسي، على عدة عوامل منها الحياة والحب والوعى والتعليم والإرادة والثقة بالنفس، والعطاء والضمير، ومن أهم نتائجه مع الإيمان بالله، هى الحياة الطيبة، والمعيشة الهادئة، وصدق الله العظيم إذ يقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».. فالشخص المقبل على الدنيا، بصفا نية، وبعزيمة ورؤية صائبة، ورغبة في الإعمار والإصلاح، لا تهزمه الظروف مهما كانت صعبة، لأنه يستطيع الارتفاع بروحه ونفسه لأحسن الأحوال رغم كل الأهوال.
والسلام النفسي، شعور يفتقده الكثير من الناس، رغم أنه لاغنى عنه لتحقيق الاطمئنان والتوازن في حياة الإنسان، وحتى يكون منسجمًا مع نفسه ومع الآخرين، فهو يشعر الشخص بالطمأنينة وراحة البال، وهو أعلى المراتب الروحية التى تجعل الإنسان، متصالحًا مع نفسه ومع المحيطين من حوله.
وحتى على مستوى الدول، يبدأ السلام من النفس الإنسانية، فإذا عاشت سلامًا داخليًا، أثمر ذلك عن تحقيق السلام بالمجتمعات وكذلك الدول، وإذا غاب السلام النفسي، عز إدراكه، وشاع الصراع والظلم في كل المستويات.. فهو الذى يمنح الإنسان القوة اللازمة لتخطى العقبات التى تواجهه في العمل أو في المنزل عند تعامله مع الآخرين، ولذلك فالإحساس بالرضا من أجمل وأحسن الطرق التى تؤدى للسلام النفسي، الذى هو أصل العيش بسعادة وراحة بال، ويحتاج إلى تدريب نفسى طويل ومستمر، مع إحساس الشخص بأن الآخرين جزء منه، يشاركهم الفرح والحزن، يحب لنفسه ما يحب لهم، بعيدًا عن الحقد والحسد والكبر والأنانية.