رغم أنني أحمد الله أننى ملأتُ الدنيا علمًا بالإشراف على ما يقرب من 140 رسالةً علمية، وناقشتُ عددًا مُقاربًا، وشاركتُ في إنتاج ما يزيد على 120 بحثًا ودراسةً علمية وورقةً بحثية، ولى ما يزيدُ على 56 تلميذًا يعملون عمداءَ ورؤساءَ أقسامٍ وأعضاء هيئةِ تدريس في كليات ومعاهد وأقسام الإعلام في مصر والوطن العربي، رغمَ كلِ هذا أشعرُ بأننى لا أستطيعُ أن أُطَاوِلَ قامةَ أمي.. تلك السيدة العظيمة الأمية التى لا تقرأ ولا تكتب، ورغم ذلك ربت وأدبت وعلمت من ملأوا الدنيا علمًا وتعليمًا وتشييدًا وبناءً، فلها ابنةٌ مدرسة ثانوى تدرس علم الجغرافيا للمرحلة الثانوية، وابنةٌ أخرى كانت أول من تخرجت في إدارتنا التعليمية من قسم رياض الأطفال بكلية البنات جامعة عين شمس، وكانت أول مَن أسست مرحلة رياض الأطفال، وتعمل الآن مديرةً لها.
بعد أمى تأتى نصفى الحلو ونسمة حياتى وسكون نفسي.. زوجتي.. محبوبتي.. رفيقة عمرى ابتسام.. أيقونة الحب والعطاء الذى لا ينضب رغم مُضى السنين.. العروس التى قبلت الزواج دون شهر عسل.. وقبلت أن أنزل للبحث صباحًا إلى «الهيئة المصرية العامة للكتاب» وسط مجلدات الصحف المصرية ومساءً في مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة وسط رُكَام المراجع الأجنبية لأعود لها قرب منتصف الليل يوميًا لكى أُنجز رسالتى للدكتوراة.. زوجتى التى كانت تعيش معى بمرتب 370 جنيهًا شهريًا تتقاسمها ما بين مصروف البيت لأسرة من ثلاثة أفراد وبين مصاريفى الشخصية وتكاليف البحث العلمي.. زوجتى التى باعت «الشَبْكَة» الذهبية التى أهديتها إياها لكى أطبع نسخ رسالة الدكتوراة.. زوجتى التى أُدين لها بكل شيء وصلت إليه من علمٍ وثروة وأسرة وحب وسكن. الطريف أننى أسميتها «تونة» وكل أصدقائى على «فيس بوك» لا يعلمون سر التسمية الذى يكمن في تناول غدائى عصر كل يوم أثناء إعدادى للدكتوراة حيث كنت أتناول سندوتشات التونة بالفلفل الأخضر في مقصف مكتبة الجامعة الأمريكية..، وأصبح الكل منذ أمدٍ بعيد ينادونها بهذا الاسم دون أن يعرفوا سر التسمية..!.
بعد نجاحى بتفوق في الفرقة الثالثة بقسم الصحافة بكلية الإعلام واحتلالى للمركز الأول ليس فقط على قسم الصحافة بل على أقسام الكلية الثلاثة لأننى الوحيد الذى أحرزت تقدير «ممتاز»، ذهبت للتدريب في صحيفة «الجمهورية» فقابلنى الأستاذ ناجى قمحة في يومى الأول وسلمنى لقسم التحقيقات، وقمت بالمشاركة في إعداد أول تحقيق صحفى لى لأُفاجأ بعد أيام بنزول اسمى على التحقيق، وفى اليوم الثانى لعملى أخذنى الأستاذ ناجى لكى أقابل الأستاذ محفوظ الأنصارى رئيس التحرير في موقف جلل بالنسبة لى «صحفى تحت التدريب مع رئيس التحرير»، فوجدته صحفيًا مُحِبًا للشباب وكان فخورًا بى وقال لى إنه أول رئيس تحرير من خريجى قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وهو القسم الذى تخرجت فيه ولكن بعد أصبح جزءًا من كلية الإعلام في العام 1971، وأخذت كل فرصتى في «الجمهورية» في أقسام التحقيقات والخارجى والتصوير والسكرتارية الفنية حتى وصلت إلى الديسك المركزى أجلس على المنضدة نفسها التى يجلس عليها أساتذة كِبار أمثال عدلى برسوم وعبدالكريم سليم وناجى قمحة وحسين فهمى وغيرهم، وكل ده في سنة ونصف حتى عُينت مُعيدًا بكلية الإعلام بعد التخرج.
لا يزايد أحد على أن مدرسة «أخبار اليوم» هى مدرسة الصورة الصحفية بامتياز، وأنها رائدة الصحافة المصورة في مصر والمنطقة العربية برمتها، اشتهر فيها عشرات المصورين الذين ترصع صورهم جدران المبنى القديم حتى اليوم، ويعد من بين هؤلاء المصورين الأفذاذ مكرم جادالكريم الذى نقل لنا بعدسته صورًا تجسد معارك مصر الحقيقية على الجبهة أثناء حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973، وكان «مكرم» هو المصور الوحيد في العالم الذى انفرد بصور حادث المنصة التى استشهد فيها الرئيس السادات رحمه الله رغم وجود عشرات المصورين الذين يمثلون الصحف العالمية ووكالات الأنباء، بفضل ما كان يمتلك من تكنولوجيا متطورة بمعايير ذلك الزمان، ولأنه كان مراسلًا حربيًا ارتدى الزى العسكرى وتلقى تدريبات قتالية لكى يستطيع ممارسة عمله. لقد استطاع مكرم أن يجذبنى إلى التصوير الصحفي، وكنت من أوائل الصحفيين الذين يلتقطون صور موضوعاتهم عند تدريبى في صحيفة «الجمهورية»، كما قمت بتدريس مادة «التصوير الصحفي» في كليات وأقسام الإعلام لسنوات عديدة، وكنت أقوم بتنظيم معرض لهذه الصور في نهاية العام الدراسي يقوم بتحكيمه أبرز المصورين الصحفيين في مصر.
صاغ «جوزيف ناي» الأستاذ بجامعة هارفارد الأمريكية عام 1990 مصطلح «القوة الناعمة» Soft Power لوصف القدرة على الجذب والضم دون إكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. ويُستخدم المصطلح حاليًا على نطاق واسع في الشئون الدولية من قبل المحللين والسياسيين. وتعنى القوة الناعمة أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، وقمت بإعداد بحث مهم في هذا المجال، وأحلم أن يكون في مصر وزارة للقوة الناعمة للترويج للدولة المصرية التى تمتلك من مقومات هذه القوة الكثير مما لا يتوافر في بلدانٍ أخرى.
رحم الله الأستاذ الدكتور شعبان عبدالعزيز خليفة أستاذ ورئيس قسم المكتبات والمعلومات بكلية الآداب جامعة القاهرة ومؤسس أقسام المكتبات في مختلف الجامعات المصرية ومقرر لجنة «الكتاب والنشر» بالمجلس الأعلى للثقافة الأسبق لما يزيد عن 15 عامًا متصلة، والذى تتلمذت على يديه في مادة «التوثيق الإعلامي» بالفرقة الثانية بكلية الإعلام فبهرنى بعلمه وموسوعيته، أذكر أن أول بحث أجريته بعد حصولى على الدكتوراة ذهب إليه في العام 1995 ليقوم بتحكيمه للنشر في المجلة العلمية للكلية، فكتب فيه تقريرًا يشهد بريادتى للبحث العلمى في مجال النشر الصحفى الإلكتروني، ومن عجبٍ أن يُعلن عن جائزة اقترحتها «لجنة الكتاب والنشر» في مجال النشر والببلوجرافيا من بين الجوائز التشجيعية للمجلس الأعلى للثقافة عام 2000 ضمن جوائز العلوم الاجتماعية والإنسانية التسعة، فتم إعلان الجوائز بحجب ثمانى جوائز وأكون أنا الفائز بجائز الدولة التشجيعية لعام 2000 ليس في مجال النشر فقط بل في العلوم الاجتماعية والإنسانية كلها، وبعدها تم ضمى لعضوية اللجنة التى كان د. شعبان مقررًا لها.
هذه بعض الشخصيات التى أثرت في تشكيل شخصيتى وتوجهاتى وقناعاتى تناولتها في مقاليْن، ولكنها بالطبع ليست كل الشخصيات، وليس كل ما يمكن أن يُقال عن هذه الشخصيات، التى لا يكفيها مقالان بل قد تكون ذات يوم صفحات الحياة ويومياتها بين دفتيْ كتابٍ.