يتشارك المسلمون والمسيحيون في بناء كنيسة، وخطاط مسيحي يرسم أسماء الله الحسنى بالمساجد، ومسلم ينشئ مسجدا باسم السيدة مريم العذراء، رسالة تلو الأخرى يرسلها أهل مصر إلى العالم لتأكيد المحبة والسلام بين جميع فئات المصريين.
ومن أبرز تلك الرسائل، الاحتفال كل عام بالمولد النبوى الشريف، والذى جمع في بهجته بين المسلمين والمسيحيين، وسادت مواقع التواصل الاجتماعي حالة من البهجة، الناتجة عن تصريح القس بندليمون بشرى، كاهن كنيسة الروم الأرثوذكس بدمياط، عن اعتياده منذ سنوات على توزيع حلوى المولد على الأطفال، وهو أمر بسيط جدا، وذلك تعبيرا عن الحب والترابط الذى يجمع بين المسلمين والمسيحيين في مصر، والأمر ليس بغريب، فالعديد من أقباط مصر يحرصون على تقديم التهانى والمشاركة في الاحتفال بالمولد النبوى الشريف لإخوتهم المسلمين.
ماجد الراهب: العروسة والحصان في الأصل قبطيان
وقال ماجد وديع نصيف الراهب، عضو المجلس الاستشارى لوزير الآثار بالمتحف القبطى، وكاتب وباحث في التراث، ورئيس جمعية المحافظة على التراث العربى: «الدين لله والوطن فقط للمحبين.. لا علاقة للأديان بالاحتفال فهو روحانى من الدرجة الأولى، ومن خلاله يتشارك الأقباط والمسلمين في نشر روح البهجة وزرع السلام بين أبناء الوطن».
وأضاف: «بالفعل لم يخل منزل أهله أقباط من حلوى المولد، بل نبادر بشرائها قبل المسلمين»، ومصر انفردت عن سائر البلدان الإسلامية بعمل عروسة وحصان المولد التى بدأت منذ العصر الفاطمي، وقد صنع أقباط مصر العروسة في مصانع بمنطقة أبو مينا بكينج مريوط، وكانت ترمز في المسيحية إلى النفس البشرية، وهى اللعبة المفضلة للبنات، وصوروا الفارس وهو البطل الذى يمتطى جواده ويطعن الشر بحربته، وهى صورة استوحاها المسيحيين من النحت الذى يمثل حورس، وهو يطعن رمز الشر في أسطورة إيزيس وأوزوريس في مصر القديمة، وذلك طبقًا لما جاء في دراسة أثرية، وضعتها بنفسي».
وأوضح «الراهب» أن العصر الفاطمى شهد عملًا دءوبًا من المسلمين لإحياء مصانع مدينة أبو مينا التى أغلقت أبوابها، وصادف ذلك احتفالهم بالمولد النبوى الشريف، فبدأ العمال المسيحيون في استئناف نشاطهم وصنعوا العروسة والفارس الممتطى الحصان، لكي يفرح بها الأطفال المسلمين والمسيحيين، بعيدًا عن أى مدلولات دينية، ثم صنعت العروسة والحصان من الحلوى وخامات مختلفة في الاحتفال بالمولد النبوى الشريف.
وتابع: تم اكتشاف نماذج للعروسة والحصان في خرائب مدينة أبو مينا، تشبه تماما العروسة والحصان الحلاوة، موضحا أن الاحتفالات الدينية بمصر كانت احتفالات قومية، يحتفل بها كل شعب مصر بنسيجه الوطنى مسلمين ومسيحيين، وقد رصدت الحملة الفرنسية احتفالًا بالمولد النبوى الشريف في الساحة الرحبة ببركة الأزبكية، وكانت تنصب السرادقات للدراويش وحلقات الذكر للمنشدين الهاتفين طوال الليل، وكان الناس يجتمعون لمشاهدة المهرجين.
وأكمل «الراهب»: تعجّب الباحث الفرنسى إدوارد ليم لين من احتشاد المسيحيين لمشاهدة حلقات المنشدين حتى أذان الفجر، وكأن مصر مجتمعة كلها بداية من الأمير ولى العهد في سرادقه حتى المزارعين والعمال والصناع، والاحتفال هنا قائم على المحبة والأخوة والمشاركة الوطنية بين الأهالى والجيران، وأضاف: «هذا لم يكن شيئا نادرا؛ فالمسلمون يصومون معنا صيام العدرة مريم، ونحن معظمنا لا يستطيع تناول الأكل أو شرب الماء في رمضان احتراما لعبادة المسلمين لأننا نتشارك في وطن واحد والدين لله وحده».
كمال زاخر: رأيت الحلوى تباع في علب تحمل صور العذراء ومار جرجس
قال كمال زاخر، الباحث القبطي، وعضو مجلس النواب: «اتربينا على مشاركة المسلمين احتفالاتهم، وإحنا عيال، بالزينة والأنوار والصلبان المُضيئة وحلوى المولد وجلسات الذكر الصوفية دى اللى شكلت نشأتنا، فحلوى المولد النبوى لها طابع مميز للمصريين؛ حيث رأيتها ذات مرة تباع في علب تحمل صورة العذراء مريم أو صورة مار جرجس، لتؤكد أن المسلمين والأقباط نسيج واحد، لا فرق بينهم».
ويضيف «زاخر»: من بين مظاهر البهجة التى يعبر بها المصريون عن سعادتهم بهذه الذكرى الغالية، الإقبال على شراء الحلوى وعروسة المولد التى تعتبر هدايا غالية يتبادلها أبناء الوطن مسلمون ومسيحيون».
وأكد أنه إذا كانت هذه المظاهر تخص الجانب الشعبى من الاحتفالات؛ فإن المغزى الاجتماعي والسياسى لا يقل بأى حال روعة وجمالًا؛ حيث تتحول تلك المناسبة إلى عيد للوحدة الوطنية بين المسلمين وإخوانهم المسيحيين، فالكل يتشارك في الاحتفال، وليس أدل على ذلك ما قامت به إحدى المبادرات الإنسانية التى حملت اسم «بنحب بعض بجد»؛ حيث قام عدد من الرموز القبطية من قساوسة وراهبات في مصر، بتوزيع حلوى المولد النبوى أمام مسجد جمال الدين الأفغانى بمنطقة مصر الجديدة، وكان ذلك حدث مبهر؛ لأننا تصرفنا بفطرتنا التى تربينا عليها، واختتم: «أتمنى حلول المولد النبوى والمصريين أجمعين بخير».
جون طلعت: الاحتفالات الدينية مذاقها خاص في المحروسة
قال جون طلعت، عضو مجلس النواب عن دائرة روض الفرج: «نحن شعب لديه قوة مشاعر في الوحدة الوطنية التى تجمع أبناء مصر، ويشارك المسيحيون إخوانهم المسلمين في الاحتفال وهذا ليس جديد، كل منهم على طريقته، بالمولد النبوى الشريف، وبصفة عامة؛ فإن مثل هذه الاحتفالات الدينية تحظى في مصر المحروسة بمذاق خاص يندر أن تجده في أى دولة أخرى، بدءا من إقامة سرادقات الإنشاد الدينى والابتهالات في مدح نبى الرحمة، ومرورًا بتسيير مواكب الطرق الصوفية التى تطوف الأحياء التى يشع منها عبق التاريخ، مثل: الحسين والسيدة زينب، والقلعة، وانتهاءً ببيع الحلوى وعروس المولد».
وأضاف: «أحرص كل عام على شراء حلوى المولد خاصة «السمسية والفولية والحمصية»، فأنا من عشاقهم»، موضحا أن المصريين يحرصون على إحياء هذه المناسبة الغالية، ولعل كلمة «المصريون» هنا دقيقة تمامًا؛ حيث يتشارك المسلمون والمسيحيون في الاحتفال بالمولد النبوي، فيتبادل الجيران حلوى المولد التى يتلقاها المسيحيون بذات اللهفة التى ينتظر بها المسلمون، وهناك طعمية بالسمسم توزع في مناسبتنا كأقباط، والتى تعبر عن أحد مظاهر الاحتفال بأعياد المسيحيين، فيكون من أكثر دواعى الفرحة والسرور لدى المسلمين الذين ينتظرونها من العام للعام من إخوانهم المسيحيين، مما يحمل دلالات عظيمة لدى المصريين ترسخ روح الوحدة الوطنية وتعلى قيم التسامح ونبذ العنف والتطرف.
نبيل لوقا بباوي: دافعت عن رسول الإسلام.. ونتمنى دوام المودة والإخاء
قال الدكتور نبيل لوقا بباوي، الباحث المصري، وأول مسيحى في العالم يحصل على درجة الدكتوراة في الشريعة الإسلامية، تحت إشراف الدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف الأسبق، والدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية السابق، إن المولد النبوى نقطة تجمع وليس نقطة تفرقة: موضحا: «إحنا كلنا واحد أبناء الأنبياء جميعا، وأنا كقبطى كنت أدافع عن سيدنا محمد صلوات الله عليه وسلم».
وأضاف: «الرسول لم يكن غازيا، بل كان مدافعا عن حقوق المسلمين، وطالبت بتغيير تعبير «غزوات الرسول»، باعتباره ظلمًا لنبي الإسلام، الموجود في كتب التراث الإسلامى والسيرة النبوية، تعبير «الغزوات» فيه ظلم للرسول ولا يتفق مع واقع المعارك العسكرية التى كانت دفاعا عن الدعوة الإسلامية، هذا واجبنا تجاهه فكيف لنا أن يمر يوم مولده دون الاحتفال به؟».
وأوضح «أن الاحتفال بالمولد النبوى الشريف يجب أن يكون بكافة مظاهر الفرح والسرور، وبكل طاعة يُتقرب بها إلى الله عز وجل، ويَدخُل في ذلك ما اعتاده الناسُ من شراء الحَلوى والتهادى بها في المولد الشريف؛ فرحًا منهم بمولده صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبةً منهم لما كان يحبه، ونحن جميعا مشتركين في وطن واحد فقط نختلف في الديانة لكننا نعبد إلها واحدا».
ونوه «بباوي» إلى أن «الأعياد والمناسبات القومية هى فرصة جيدة للالتقاء وتجديد العهد والمودة والإخاء وزيادة المحبة والتقارب بين نسيج المجتمع الواحد، ونتمنى من الله أن يبارك محبتنا دوما».
شاهين: نحن في رباط إلى يوم الدين
وأكد الشيخ الشحات شاهين، نقيب القراء بالشرقية، أن هذه العادة، وهى مشاركة الأقباط لنا في الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، أمر محبب لنفس المصريين لأنها تجلب الفرح وتدخل السرور على كل المصريين الذين يبتهجون في الأعياد.
وأضاف: «نحن نقوم كل عام بتوزيع الحلاوة كهدية ونوع من المحبة والود اللى بينا، عندنا في البلد نسبة كبيرة من الأقباط من حقهم يفرحوا معانا، وده اللى ربنا أوصى به أننا نتشارك في الوطن وأنه الدين له وحده، ولم تقتصر مشاركة إخوتنا الأقباط في المولد فقط، ولكنهم يشتركون معانا في كل المناسبات التى بنحتفل بيها، وإحنا أهل وطن واحد ومع بعض على الحلوة والمرة، وهى دى عادة المصريين دايمًا، فنحن في رباط إلى يوم الدين بإذن الله».
عبد الفتاح الطاروطى: نفتخر بأنفسنا وهويتنا الوطنية
قال الشيخ عبد الفتاح الطاروطي، مدير معهد الطاروطى بالشرقية لتحفيظ القرآن الكريم، إن الشعب المصرى لم يكن يوما مسلمين ومسيحيين، بل إخوة متحابون، وأن وجودنا في وطن واحد يحتم علينا جميعا الاحتفال بالمولد النبوى معا، كأقوى دليل على الوحدة والمحبة التى تجمع المصريين بمختلف عقائدهم.
وتابع: «لنا أن نفتخر بأنفسنا وهويتنا الوطنية التى نحيا بها على أرض مصر الطيبة، فلا فرق بين مسلم ومسيحي».
وأضاف الطاروطي: أن الوحدة الوطنية في مصر كلها تقف على قاعدة راسخة وبناء صلب وتضرب بجذورها في أعماق التاريخ، ولا أنسى دوما ببالى الشاعر القبطى رشيد الخورى الذى قال «يا محمدُ.. يا نبى اللهِ حقًا.. يا فيلسوفَ الفلاسفةِ.. وسلطانَ البلغاء.. ويا مَجْدَ العرب والإنسانية.. إنّك لم تقتل الروحَ بشهواتِ الجسد، ولم تحتقر الجسدَ تعظيمًا للروح.. فدينُك دينُ الفِطْرةِ السليمة».
وتابع: «لقد أعطى الشاعر المسيحي للرسول حقه، وفي نفس الوقت، كشف أفعال أتباعه المخالفة للدين الحنيف، نعم نحتفل كل عام بمولد النبى ولكننا لم نتبع أفعاله وسلوكه، وتغافلنا عن المبادئ التى حثنا عليها، وأمرنا أن نقوم بها، ابتعدنا عن العلم وتعلقنا بالجهل واتبعنا الجهال الذين فرضوا على المجتمع إسلاما غير صحيح، يميل إلى التشدد ويبتعد عن التسامح، يرفض الآخر ويتجنب الحسنى والرفق والمحبة، يطلب الدم بدعوى الجهاد وينسى الرحمة والمحبة والسلام، والشاعر المسيحى الذى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام في عدة قصائد مشهورة قال في كلمته إن «العالم يتهم الإسلام بكل فرية، والمسلمون بأعمالهم يصدقون هذه الفرية، ويلصقونها بدينهم وهو منها براء»، لقد دافع الشاعر القروى عن الرسول والإسلام أفضل من معظم المسلمين ويا ليت المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، يستجيبون لهذا الشاعر العظيم ويطبقون مبادئ الإسلام حقًا».