الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لبنان على موعد مع التاريخ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على أرض لبنان اندلعت ثورة لها مذاق مختلف، وإيقاع متميز، فلسفة ممنهجة، صريحة في شعاراتها، مستنيرة في قوامها، مثقفة في خطابها، مدوية في أصدائها.. لبنان هو نوارة العالم.. لم ينس من خلال ثورته روح الفن وقدسية المسرح بتقاليده وآدابه.. اهتزت السلطة أمامه.. شعب جميل ولا يقبل بالحلول التجميلية، يعشق الحياة ولا يقبل أن تتجاوز الحكومة طموحه، ويجب أن ترتفع هذه الشعارات المطروحة لمستوى ثقافة ورقى مفاهيمه، لا تقنعه الدموع وكلمات الرثاء أو النداءات المضادة الحماسية لجوهر هذه الثورة فهو شعب صهرته التجارب القاسية والمحن التى مر بها وما زالت آثار التجربة راسخة في النفوس، وما زال الذين يسيطرون على الشارع السياسى هناك لا يعرفون (الشفرة) الجينية لهذه الجماهير، إنما فوجئوا بمقدمات هذه الثورة ومقوماتها، وفوجئوا بأنهم أمام شعب آخر يؤكد للعالم أنه يجيد لغات الكرة الأرضية ويتقن اللغة العربية في الفن وفى الإبداع، في الشعر وفى الإلهام.
إذا شارك أصحاب الملابس الصريحة الجريئة بملابسهم على خشبة المسرح بالأغاني، إذا اتخذ المظهر في الثورة فإنهم حتى الآن لم يستوعبوا الجوهر، فهم يؤكدون أنهم خلال هذه الأيام يحركون ثورة بكل معانيها ولكن بمفاهيمهم فقد تعدت في إيقاعها مرحلة الحراك السياسى، لكنها قفزت لكى توجه الانتقادات العاجزة.. ثورة لها مراحلها متجاوزة ما سمى بالثورة المضادة وتحولت إلى حالة للاستقرار وفرضت المرحلة الذكية على الشعب كله.. حولت الأحداث لميثاق غليظ وكان معتقدا منذ الاستقلال وهو وحدة الشعب اللبنانى ولم تعد النداءات مجرد صرخات جوفاء وأطروحات صحاء فقد تبلور الأمل المؤجل وهو لبنان الموحد لا تمزقها طائفية بل هى ثورة تسمو فوقها وتحلق بهذا النداء النابع من الأعماق في عنان السماء، دخل بفضل الشباب لمرحلة الرجولة في فترة قياسية ومبكرة لذلك انفعل العالم واهتز وأعطى لبنان ما يستحقه من الاهتمام.
بعد اليوم لن نطلق النواح فإن صوت الشارع الثورى انطلق وأصبح من حقه أن يغضب وأن ينفعل وأن تنطلق مجموعاته.. حركة نقية طاهرة عطرها يفوح أجواء العالم كله.. فقد كان الجهلاء يسخرون من لبنان ويتهمونه بأنه شعب من الذى يجلسون في مقاعد مسرح الدنيا يصفقون للمنتصر ويسخرون من المهزومين.
أثبت شباب لبنان اليوم عكس هذا الاقتصاد الذى يدعى خبراء التحليل إنهم عالمون ببواطنه.. خسروا رهاناتهم الهشة وأثبتوا أن الشعب هناك معادلة يصعب حل طلاسمها بفكرهم الذى تجاوزته هذه الأفئدة التى أصبحت على استعداد لأن تفتدى بكل العزم وطنها.
قالوا عنهم سلالة الفينيقيين وأنهم مجرد بحارة لهم في كل بيت، وكذَّب الشباب هذا الافتراء وأن الكعبة التى يتجه إليها هى خزانة البنوك، وأثبت اللبنانى أن كل شىء عندهم له ثمن وكل سلعة لها سعر والفائز لمن يدفع أكثر، حتى أكثر الأمور حساسية ولو تعلقت بأمور تتصل بالأمن القومى فإنه مصرح بتداولها لكنها تتداول في سوق المزايدات هذه إحدى نماذج لرواسب الماضى لدرجة أن القضية اللبنانية بفضل تقادم أفكار ساستها جعلت الحلول دائمًا في خزانة الأثرياء الذين يرغبون في أن يلعبوا أدوارا داخل أرضها، هؤلاء الذين أحالتهم الثورة الشابة للتقاعد.
وبهذه المناسبة فإن لبنان حصل على كأس أسيا في الكرة، وهذا مفتاح غير تقليدى ومفتاح لعهد جديد فهو أول مرة يدخل هذه المسابقة، فكانت في السابق تنحصر في ملاعبهم كرة السلة أو الطائرة التى انتقلت بارئها إلى الساحة السياسية تحقق كل ثانية هدفا، ولكن في ساحات السياسة والرياضة والثراء فقد أسبغت فلسفة كرة السلة التى تتميز بالأهداف المتلاحقة وتسجل الأهداف بحسب الثوانى وانعكس هذا على ثروات الساسة وأسلوب منهج عطائهم. المهم ثرواتهم هنا وهناك ويفلس خزينة لبنان.. ولا شك أن الحلول للمشكلات الوطنية حائرة في السياسة تتأرجح بين العواصم التى وجدت نفسها القدرة لكى تكون لها الكلمة.. وحاول حزب الله الذى نسب إلى هذا الاسم بالمخالفة الصريحة لصحيح القرآن الذى ذكر في سورة البقرة تحذيره القاطع «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم» وسبحانه وتعالى برىء من الأحزاب التى هزمها.. لكن صبر الشعب على مدرسة حسن نصر الله.. ليعلن بكل صراحة أمام العالم ويشهده بأنه كشف أن التنظيم قد أصيب بالهرم والوهن رغم الدعم الخارجي.. بل وامتدت الإصابة للزهايمر.
نعم وقف العالم كله مبهورا أمام جرأة الشباب وروجت آراء المحللين السذج أنه صمت مريب لكن التشخيص الصحيح أنه الصمت الرهيب، فلم تصبح هذه الدولة كما كانت تقف في مقدمة الصحف بين الثورة الديناميكية أو الحرب الأهلية.. ومن أول إيجابيات ما حدث أن فكرة الانقسام أصبحت رؤية، فهناك دولة تستحق الدفاع عنها وأن هذه الجماهير صاغت ميثاقها، لكى تعلن أنها مصممة على استعادة وطنها إلى حضنها.. قد تكون هناك أفكار قديمة راسخة حول شخصية الشعب اللبنانى فهو يعشق الحياة ولا دخل له بمسرحية الأحداث وإيقاعها ويكفى أن يعيش لحظة سعيدًا.. هؤلاء الجهلة لم يعرفوا التاريخ فهى تقول إن البطولة لم تفارق بوصة على أرضها.. فليس هذا هو الشعب الذى يعشق اللهو والقمار والسخرية من نفسه ومن الدنيا، فقد سجل التاريخ أنه سطر بطولات ورموز غالية في الفن والفكر وساحة القتال واستطاعوا الانتصار على الإمبراطوريات رغم السلاح البدائي.
من أهم المبررات التى عجلت بالاحتجاجات وسرعة تتابعها أن تنكمش الصحافة هناك وأصبحت كسيرة غير قادرة على التأثير ولم تلعب أى دور في تحريك الأحداث وانتقلت من الفاعلية إلى السلبية ويبدو أن الشعب تنفس الصعداء بأنها أصبحت غريبة على ساحة الأحداث رغم تاريخها السياسى، لكنهم جميعا أداروا لها الظهور لتصبح غائبة عن الساحة والظهور.
وجدت في شعارها تلخيصا للموقف وأن لسان حالها الإعلام أو الصحافة أصبح مشلولا وهى نقطة تحسب لمقومات الثورة والحديث ليس مجرد تناول وقائع بعينها، سواء فسادا أو حمى يومية وصعوبة الحياة وتنظيف الحياة السياسية بكل مقوماتها وتطهيرها من التلوث الذى تشعب من الصدور.. ولن يترك الشعب الأدوار لسياسة الفرص والأمر الواقع وتحل طبقة التكنوقراط محل المحترفين والساسة لكنها زلزال.. هزة أرضية محسوبة بمنطق الشارع سوف تزيل الأكواخ والعشش والمبانى السياسية الآلية للسقوط.. والسؤال التوقيت قد يكون اليوم.. أو غدا لكن هذا الشعب بطبيعته تكوينه البشرى أنه لا يعرف اصطلاح «بكره» ولا يؤجل قراره إطلاقًا للغد لأن من ثوابته أن يوم العاجزين غد.. فقد انتهت مرحلة الجهاد الأصغر والعالم يحبس أنفاسه للجهاد الأكبر.
لم يعد لبنان السؤال الصعب المركب المعقد الذى يصعب الإجابة عنه.. ولم يعد لبنان هو السهل الممتنع.