عبدالسلام إبراهيم قادربوه، مواليد مدينة بنغازى عام 1934م، انشغل بتثقيف نفسه، صحفيا وشاعرا في خمسينيات القرن الماضي، ويؤرخ له في المشهد الشعرى الليبى من رواد الشعر الحر بقصيدته (الاستسقاء)، من ترسم خطاه راصدا لثقافة بدوية هو متلقيها والمعجون بكثير من تفاصيلها، وراويها المثال، مع اتصاله الحميم بتلك العوالم، شاهدا ووارثا، نلمس ذلك من مرجعياته أمكنة وشخوصا، هو المدقق والمشكك لا يكتفى بقبولها كما هي، بل طارحا لآرائه المعمقه بالأسانيد والافتراضات المشروعة، يرفض أن تتنازعه عاطفة أو هوى نفس، مهموم بثقافته الشعبية سابرا لأغوارها، ملك مشروعا عززه بالاشتغال المبكر، مصاحبا مساره بما شاهد ولاحظ وتخاطب مع صانعيها، ومن دب دبيبها شاعرا أو شغوفا يقاسمه استقراءه، ومن ثم أسراره كشفا عن مكبوتها، رموزه ودلالاته، لا يتحرج السؤال، سؤال المعرفة لعطش المتأمل في درر الأجيال المتعاقبة، لا يفوت شاردة ولا واردة، يوظف حواسه المرهونة بما يستنبطه، «قادربوه» الباحث العصامي، حمل سؤاله كباحث منقب في التراث الشعبى منذ بواكير سنى شبابه، ربيعه العشريني، ففى هامش كتابه «أغنيات من بلادي».
نستدل على شغفه أينما حل بمطارح الأدب الشعبى وإن تباعدت السنون، نموذج ذلك حكاية تدوينه وتوثيقه لأغانى العلم في مجموعتها الأولية 1961م، والتالية 1971م، ولنا أن نضيف أنه حين لم يكتب له إكمال تعليمه الثانوى عمل مدرسا ومتدربا في فرقة للفنون الشعبية، وسنحت له الفرص أن يكون من الرواد والمشتغلين بعلم المكتبات، ومع افتتاح الإذاعة الليبية كان معدا ومقدما لبرنامج يُعنى بالأدب الشعبي، وله فيه صولات وجولات، مفعلا الأجواء آنذاك بالمساجلات الشعرية التى وظفها لقضايا الوطن والمواطنين رجالا ونساء، ويذكر له مجايلوه من الشعراء والمستمعين فيمن مزق ستار الجفوة حيال الأدب الشعبي، بخلق جمهور وصل حد تفاعله الحامى الوطيس بوصول الـ6 آلاف رسالة في شهر واحد، وتحمسا لمعركة شعرية تدور رحاها بين مؤيدى ومعارضى خروج المرأة للتعليم والعمل منتصف الستينيات.
ولا أجانب الصواب، إذا ما أقررت أن الحدود الفاصلة بين مقاربة اشتغال دارسين من بكروا جمعا وتحقيقا، ومقاربة قادربوه أنها أكثر من واضحة في أساسها وركيزتها «المنهج»، فما قدمه قادربوه في فصول كتابه (أغنيات من بلادي) هو كنز تراثى مخزون صفحاته 340، بموضوعات متنوعة يبدأها من العام إلى الخاص، ففى الفصل الأول يمهد لتعريفه للمأثورات الشعبية، ومنها إلى الأدب الشعبى ومفهومه عربيا وعالميا ونقاط الجدال والخلاف بينهما، ثم نشأة الأدب الشعبى في ليبيا، محددا بشرقها (مجاله المكانى كباحث)، ويختم الفصل الأول بتأثير الشعر العربى على الشعر الشعبى (بذور التناص)، الفصل الثانى بيت الجلاس، أغانى العلم، صوب خليل، الكشك، وفى ظنى أنه قدم للمكتبة الشعبية الليبية أول بل وأكثر الدراسات المعمقة في هذه الظواهر البدوية، وفى الفصل الثالث يخوض جمعا وبحثا وظيفيا في أغانى الممارسات الشعبية وربما ماثل في متنه جهود الرائد أحمد رشدى صالح (الأدب الشعبى 1966م): إن لم يتجاوزه في البحث والتنقيب وقتها في دلالات الملفوظات، أغانى الحصاد، وأغانى الدراس، وأغانى الطحن، وأغانى جز الصوف، في الفصل الرابع أغانى ترقيص الأطفال – أغانى تنويم الأطفال – أغانى الألعاب، الأولاد والبنات كل على حدة، وفى الفصل الخامس المعنون باحتفالات التأهيل يقدم أغانى الختان وأغانى الوشم، أما آخر الفصول السادس، فخصصه للألحان الشعبية. ويغلب على أجمعها كونها مواد عايشها واحتفظ بها في ذاكرته ومدوناته من رواة حفظوا ما عرفوا، وهو أيضا حفظها وحافظ عليها، محصلة كل ذلك خبرة شخصية (ابن بيئته البدوية) مع معرفة مدركة منقولة من الكتب والمراجع والدراسات التى أوردها في هوامشه، وقد مارس مهمته بحافز ذاتى محض لا يفعل ذلك وهو منعزل عن الواقع الذى يعيش فيه، بل يتلقى من مكوناته وأحداثه وتطوراته مختلف المؤثرات التى تحفز قدرته الإبداعية على التعبير والتسجيل، فيجد نفسه - وهو يعبر عن صدى ما تلقاه من مؤثرات في نفسه وعواطفه - يسجل وينقل لمعاصريه الذين يواكبون إبداعه. الاتجاه المنهجى الذى خطاه قادربوه نستقرئه من عديد الإشارات التى دونها في فصول دراسته (أغنيات من بلادى).