صراع جديد بدأت تتشكل ملامحه فى أوروبا، يعيد إلى الأذهان الصراعات القديمة بين الإمبراطوريات الاستعمارية، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، فى ظل التفكك الذى يعانيه الاتحاد الأوروبى، على إثر «بريكست» من جانب، والتحديات التى يواجهها التكتل من قبل التيارات الشعبوية التى باتت تهيمن على دائرة صنع القرار العالمى، خاصة مع صعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فى ٢٠١٧، بالإضافة إلى استعادة روسيا إلى جزء كبير من مكانتها الدولية فى السنوات الماضية.
ففى بريطانيا، نجد انتخابات برلمانية مبكرة على الأبواب، تأتى فى الوقت الذى يواجه فيه رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون تحديات عميقة، على رأسها صداع الخروج من الاتحاد الأوروبى، والذى يتبنى فيه الرجل موقفًا حادًا، خاصة وأن طريقة الخروج، والتى قد تحدث بدون اتفاق، أثارت العديد من الانتقادات ليس فقط داخل أروقة السياسة الأوروبية، أو فى الداخل البريطانى، وإنما تمتد التحفظات إلى الدائرة الضيقة لحزب المحافظين، الذى يتزعمه، وهو ما تجلى بوضوح فى الآونة الأخيرة برفض مقترحات «بريكست» سواء تلك التى تقدم بها جونسون أو من قبله رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماى، حتى وصل الأمر إلى انشقاق عدد كبير من البرلمانيين عن الحزب الحاكم الذى فقد أغلبيته إثر ذلك.
ولعل التوجه نحو إجراء انتخابات برلمانية جديدة فى بريطانيا يعد بمثابة «مقامرة» يخوضها جونسون، قد تضع مستقبله السياسى على المحك، فى ظل الانشقاق الكبير داخل الحزب من ناحية، واستعداد حزب العمال المعارض للمعترك الانتخابى، وهو ما بدا فى قبول زعيمه جيريمى كوربين للتحدى، فى موقف يمثل تغييرًا كبيرًا، حيث سبق له وأن رفض نفس المقترح قبل عدة أسابيع، من ناحية أخرى.
إلا أن مقامرة جونسون تبدو محسوبة إلى حد كبير، خاصة وأن القبول بكوربين رئيسًا للوزراء يبقى دربًا من الخيال ليس فقط بالنسبة لأعضاء حزب المحافظين، ولكن أيضًا بالنسبة للمنشقين منهم، بالإضافة إلى وجود تحفظات كبيرة عليه من قبل أعضاء حزب العمال، فى ظل ما يلاحقه من اتهامات، على رأسها معاداة السامية، بالإضافة إلى الحديث المتواتر عن أحواله الصحية، والتى لا تؤهله لقيادة بريطانيا.
ويعد قرار رئيس حزب «بريكست» نايجل فاراج بعدم خوض الانتخابات البرلمانية هو الآخر فرصة جديدة لجونسون، لتصبح الساحة شبه خالية أمامه فى الانتخابات المقبلة، للسيطرة التامة على البرلمان، وبالتالى تمرير القرار الذى يتطلع إليه فيما يتعلق بمسألة «بريكست»، وذلك بعدما فشل أولا فى تحييده من خلال استصدار قرار من قبل الملكة إليزابيث بإغلاقه، بحكم قضائى أصدرته المحكمة العليا ببطلان تلك الخطوة.
وهنا تصبح الانتخابات البرلمانية المبكرة، والتى تعد الأولى من نوعها فى بريطانيا منذ ما يقرب من قرن من الزمان، بمثابة خطوة يمكن لرئيس الوزراء أن يضرب بها أكثر من عصفور بحجر واحد، حيث إن انتصاره بها يعد بمثابة انتصار جديد لـ«بريكست»، هو الأول من نوعه منذ استفتاء ٢٠١٦، والذى صوت فيه أغلبية المشاركين لصالح الطلاق من أوروبا، بالإضافة إلى كونها تمثل خطوة كبيرة نحو ترسيخ قواعد حكمه، عبر إخضاع البرلمان البريطانى، ليدور فى فلكه، بعد شهور من التعنت وجه خلالها مجلس العموم صفعات متتالية سواء لحكومته أو لحكومة ماى، مما دفعه إلى الاستقالة.
أما فى فرنسا فقد تجلى الصراع الأوروبى فى البداية مع ظهور الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، والذى وصل إلى قصر الإليزيه بعد شهور من تنصيب ترامب، ليضع على عاتقه مسئولية العودة إلى المجد الإمبراطورى، عبر قيادة القارة العجوز، من خلال التقارب مع واشنطن أولاً، مستغلاً حالة عدم القبول المتبادل بين الرئيس الأمريكى والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتى كانت الذراع الأهم للإدارة الأمريكية السابقة بأوروبا، لتبدو بوادر صراع سياسى بنكهة تنافسية بين قوتين أوروبيتين على قيادة التكتل الأوروبى المحتضر بفعل معطيات دولية وإقليمية لم تعد تصب فى صالحه إلى حد كبير.
إلا أن فشل ماكرون فى تغيير رؤية ترامب المناوئة لأوروبا الموحدة، دفعه إلى اتخاذ مسارات أخرى لإحياء حلم استعادة الإمبراطورية، من خلال السعى لإيجاد دور فعال لباريس فى العديد من القضايا الدولية، على رأسها المسألة الإيرانية، والتى سعى فيها للقيام بدور الوساطة، بالإضافة إلى اقتحام العديد من مناطق العالم، وصلت إلى حد مغازلة روسيا تارة، والتقارب مع الصين تارة أخرى، بحثا عن القيادة المفقودة، بالإضافة إلى تقديم نفسه باعتباره المدافع الأول عن قيم الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان فى خطابات رنانة، فى محاولات للوصول إلى دور قيادى عالمى انطلاقا من القارة الأوروبية، ومحاولاته لدعم المستعمرات الفرنسية القديمة. وعلى الرغم من محاولات ماكرون المتواترة لطرق مختلف الأبواب، إلا أن ردود الأفعال الدولية لم تكن إيجابية على الإطلاق، وهو ما بدا واضحًا، على سبيل المثال، فى تصريحات المرشد الإيرانى الأخيرة، على خامنئى، والذى وصف الرئيس الفرنسى بـ«الساذج» بسبب دعوته إلى الحوار مع واشنطن، فى إشارة صريحة لرفض طهران للوساطة الفرنسية، لتجد باريس طريقًا جديدًا للتوغل على المستعمرات القديمة لبريطانيا، على غرار الدعم الفرنسى لمتظاهرى هونج كونج، على حساب الحكومة المركزية فى الصين، سعيًا وراء الدور المنشود.
فرنسا تبدو حريصة فى السنوات الماضية على تقديم الدعم للدول التى كانت تحت سيطرتها إبان الحقبة الاستعمارية، سواء من خلال التدخل السياسى فى الأزمات، وهو ما يبدو فى تحركها السريع لاحتواء أزمة استقالة رئيس الوزراء اللبنانى سعد الحريرى قبل عامين، بالإضافة إلى طريق نشر القوات العسكرية، على غرار ما يحدث فى مالى، وذلك على اعتبار أن الدور الداعم للمستعمرات القديمة يضمن ولاءها، وبالتالى بقاء النفوذ الفرنسى فى تلك المناطق.
ولكن يبقى السعى الفرنسى لدعم احتجاجات هونج كونج، فى الوقت الذى تبدو فيه الحكومة البريطانية منشغلة بأوضاعها فى الداخل إثر حالة الانقسام الحالي حول مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبى، محاولة صريحة لتجاوز مناطق النفوذ القديمة، والامتداد لمناطق جديدة، ربما تراها القوى الاستعمارية الأخرى عمقًا سياسيًا واستراتيجيًا لها، وهو ما يعيد إلى الأذهان صراع الإمبراطوريات القديمة، الذى لم يقتصر على الجانب السياسى، لتصبح التحديات فى الداخل الأوروبى بمثابة عوامل ضغط جديدة لدعاة «الوحدة الأوروبية»، بالإضافة إلى المعوقات الكبيرة المقبلة من الخارج وعلى رأسها الولايات المتحدة.
فالموقف الأمريكى من اتفاقية باريس للمناخ ليس جديدًا، حيث كان الانسحاب منها أحد الوعود التى قطعها على نفسه دونالد ترامب، منذ أن كان مرشحًا للرئاسة فى ٢٠١٦، على اعتبار أن الالتزام بتخفيض الانبعاثات الحرارية للحد من ظاهرة التغير المناخى، والتى أصبحت بمثابة تهديد للسلم والأمن الدوليين، من شأنه التأثير على الصناعة الأمريكية، وبالتالى الاقتصاد، والذى يمثل أولوية كبيرة فى أجندة الإدارة الحالية، والتى نجحت بالفعل فى تحقيق معدلات نمو اقتصادى كبيرة، إذا ما قورنت بالإدارات السابقة.
إلا أنه بعيدًا عن الهدف المعلن، فهناك أهداف أخرى يحملها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى جعبته، وراء الخطوة، خاصة إذا ما نظرنا إلى توقيتها، حيث إنها تأتى بالتزامن مع زيارة يقوم بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى الصين، فى مهمة تبدو أوروبية أكثر منها فرنسية، تسعى من خلالها باريس لإيجاد شركاء جدد لأوروبا، خاصة فى المجال التجارى، فى ظل الحرب التجارية المندلعة بين الصين والولايات المتحدة منذ شهور، فى الوقت الذى تحاول فيه فرنسا توسيع نفوذها الدولى. وهنا نجد ارتباطًا وثيقًا بين الخطوة الأمريكية من جانب، وكل من فرنسا، والتى تحمل الاتفاقية المناخية اسم عاصمتها (باريس)، والصين، والتى أصبحت قوة اقتصادية مهولة، وتمثل كابوسًا للولايات المتحدة فى ظل اختلال الميزان التجارى بين البلدين لصالح بكين، خاصة وأن واشنطن وحلفاءها طالما كالوا الاتهامات للصين بعدم الالتزام بالمعايير المناخية، فى السنوات الماضية، وهو الأمر الذى كانت تبرره الصين بكونها دولة نامية، وبالتالى فمن حقها العمل لتحقيق التنمية الاقتصادية.
وبالتالى يبقى توقيت الانسحاب الأمريكى من الاتفاقية مدروسًا بعناية، حيث إنها تمثل رسالة أمريكية للحليف الفرنسى والخصم الصينى، خلال لقائهما المنعقد فى بكين، مفادها أن واشنطن ما زالت لديها كل الأوراق لإفساد أى اتفاق محتمل، خاصة وأن الخروج الأمريكى يعد بمثابة «موت إكلينيكى» للاتفاقية، ويفقدها قدرًا كبيرًا من شرعيتها.
ولعل ارتباط الاتفاقية باسم «باريس» يضفى قدرًا من النفوذ لفرنسا، ورئيسها الساعى إلى المزيد من المجد الدولى، وبالتالى فيعد القرار الأمريكى بمثابة «فرمان» لحرمان ماكرون من هذا الشرف، كما سبق وأن حرمه من القيام بأدوار دولية سعى إليها فى الأشهر الماضية، وعلى رأسها دور الوسيط بين واشنطن وطهران، وهو الأمر الذى لم يقبله ترامب، حيث فضل عليه اليابان، للقيام بهذا الدور، وهو الأمر الذى استجابت إليه طهران عبر زيارات وزير خارجيتها إلى طوكيو.
ويبدو أن الانسحاب الأمريكى من الاتفاقية يأتى فى إطار خطوات مشابهة، اتخذها على العديد من المسارات، كالانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، أو اتفاقية الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، مع روسيا، وغيرهما، حيث إنه أبدى انفتاحه فى أكثر مناسبة للوصول إلى اتفاقات جديدة، بمعايير مختلفة، وهو الأمر الذى ربما يتكرر مع اتفاقية المناخ، فى المرحلة المقبلة، شريطة تغيير المعايير التى لا تروق لها، وربما أولها أن تحمل اسمًا آخر، بعيدًا عن فرنسا أو أوروبا بأسرها.