باتت قضية الوعى محورًا رئيسيًا في كل خطابات وأحاديث الرئيس عبدالفتاح السيسي، ما يعكس شعوره المتنامى بتفاقم أزمة الوعى وآثارها السلبية على إحساس المجتمع بالاستقرار وتعاطيه مع مختلف القضايا العامة.
وفى كل أحاديثه التى كان آخرها أثناء افتتاحه عددًا من المشروعات القومية الكبرى في السويس وجنوب سيناء، حرص على مناشدة الإعلام بتوعية الجمهور ونشر المعلومات الصحيحة، لمواجهة حرب الشائعات التى تواجه المواطن البسيط المنشغل بتفاصيل حياته اليومية المزدحمة بالأعباء.
وأظن أن دعوته لكل من البرلمان المصرى والنائب العام التحقيق في كل ما يثار من لغط حول قضايا معينة واطلاع المصريين على النتائج النهائية يأتى في هذا السياق، في محاولة لقطع الطريق على مروجى الشائعات والأكاذيب.
لكن هل يكفى نشر المعلومة للتأثير في وعى الجمهور؟!؛ صحيح أنها تلعب الدور الأكبر في تشكيل هذا الوعى، لكنها ليست العامل الوحيد فثمة اعتبارات وعوامل أخرى مهمة تشاركها هذا الدور.
وما يجعل هذا التساؤل يكتسب منطقيته، هو أن أغلب الصحف ووسائل الإعلام المصرية لاتألو جهدًا في نشر كل المعلومات المتاحة عما تقوم به الدولة من مشروعات وإنجازات كبرى استنادًا إلى البيانات الرسمية الصادرة عن مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية المختلفة؛ ولا أظن أن منصفًا ينكر هذه الحقيقة إذا كان من المتابعين للصحف والمواقع وحتى الفضائيات المصرية؛ ومع ذلك تجد الشائعات والأكاذيب طريقها إلى الجمهور، بل وتعرف سبيلها للتأثير على اتجاهاته.
المشكلة إذن تكمن في الخطاب الإعلامى المسئول عن تسويق وترويج تلك المعلومة، بمعنى آخر أن الإعلام المصرى في مجمله لم ينجح حتى الآن في إيجاد صيغة مناسبة يخاطب من خلالها جمهوره وهذه قضية تستحق من الدولة التفكير فيها مليًا، وأتصور أنها لا تنفصل عن تراجع مبيعات الصحف المصرية وبمقولة أوضح فقدان هذه الصحف القدرة على التأثير في قارئها ما دفعه إلى الإحجام عنها.
ربما يحتاج الإعلام مساحة لممارسة دوره كسلطة رابعة في كشف الفساد وأوجه القصور ليكون معاونًا لبقية أجهزة ومؤسسات الدولة، وربما يحتاج لتغييرات جذرية في طبيعة القائمين على إدارته، بالبحث عن نخبة إعلامية جديدة غير تلك التى تهيمن عليه منذ عقود طويلة، وهى النخبة التى لديها تصوراتها الخاصة والتقليدية حول علاقة الإعلام بالسلطة السياسية من ناحية وعلاقته بالجمهور من ناحية أخرى؛ أى أنها نشأت في ظروف سياسية مغايرة لما نحن بصدده الآن.
المعلومة وحدها لا تكفى للتأثير في اتجاهات الرأى العام خاصة وأن لدينا إرثًا قديمًا من فقدان الثقة والمصداقية بين الدولة والمواطن ما جعله يتشكك في كل ما تنشره الصحف ووسائل الإعلام الرسمية نقلا عن أجهزة ومؤسسات الدولة ولا أظن أحدًا ينكر هذا الواقع المؤلم الذى ورثته دولة الثلاثين من يونيو عما يمكن تسميتها بدولة مبارك؛ وهو مايعنى أننا بحاجة إلى خطاب وأداء إعلامى مختلف، وفهم جديد لصياغة علاقة جديدة بين مؤسسات الدولة والإعلام.
لاينبغى أن ننكر تأثير خطاب تيارات المعارضة السياسية لنظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك على ثقة الجمهور في كل ما يصدر عن الدولة، وأنها لعبت دورا لا يستهان به في هدم جذور الثقة والمصداقية بينهما وقد عزز أداء النظام السياسى المتندنى من فاعلية هذا الدور.
إذن نحن أمام إرث ثقيل، يلقى بظلاله على مصداقية بيانات الدولة الرسمية ومواجهته ضرورة حتمية لامناص منها، خاصة وأننا إزاء نخبة سياسية وثقافية تعانى هى الأخرى من أزمة عميقة في الوعى.أحد تجليات هذه الأزمة فقدان النخبة الإعلامية المهيمنة القدرة على صياغة خطاب إعلامى جاذب ومؤثر، وإفساحها المجال أمام مواقع التواصل الاجتماعي لتحل محلها في أداء كل أدوارها.
ومن تجلياتها أيضًا ردور الأفعال على حادثة مقتل الشاب محمد عيد تحت عجلات قطار الإسكندرية، حيث انبرى جانب كبير من هذه النخبة إلى اعتبار تعليمات وزير النقل والمواصلات للمحصلين بعدم التهاون في أداء واجبهم السبب المباشر لمقتل عيد، وكأن الوزير طلب من المحصلين تخير الركاب بين دفع قيمة التذكرة أو القفز، بل إن بعضهم فسر تخاذل باقى ركاب القطار وإحجامهم عن التصدى لتعنت الكمسرى بالخوف الذى زرعته الدولة في قلوب المصريين، والصحف المصرية تعج بالمقالات التى ذهبت إلى ذلك التفسير.
أحد تجلياتها أيضًا برز في خطاب جانب من النخبة ما أشيع حول تنازل الدولة المصرية عن جزء من أراضيها في شمال سيناء ضمن ما تسمى بصفقة القرن رغم تأكيدات الدولة في أكثر من مناسبة على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسي على عدم التفريط في شبر واحد من أرض الفيروز وعلى موقفها الثابت من حل القضية الفلسطينية طبقا لقواعد القانون الدولى والقرارات الأممية.
انخفاض منسوب الوعى طال الجميع، وإذا كانت الدولة تريد الانتصار في هذه المعركة فلا بد لها من البحث عن آلية لخلق نخبة سياسية وثقافية وإعلامية جديدة، ولن يكون ذلك إلا بحوار فعال ومتواصل شريطة أن تتخلى كل الأطراف عن شعورها بعد الثقة والتحفز تجاه الآخر.