الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

لا أعرف شيئًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أرسلت إليَّ إحدى تلميذاتى رسالة تشكرنى فيها على أسلوب تعاملى مع تلاميذى داخل قاعة الدرس، وأرجح أن السبب الرئيسى الذى دفع تلك الطالبة إلى أن تغدق عليَّ كلماتها الطيبة التى أثلجت صدري، هو أننى قد تخليت منذ فترة زمنية بعيدة عن «المحاضرة» كطريقة للتدريس. إذ أدركت أن «المحاضرة» أسلوب ضار جدًا بالعملية التعليمية، إذ يكون الأستاذ هو وحده الذى يتحدث، وكافة من بالقاعة من الطلاب يجلس صامتًا يتلقى العلم من الأستاذ، إنها طريقة تعتمد بشكل أساسى على «الإملاء»، ويغيب عنها الحوار، إنها أسلوب «استبدادي» من جانب الأستاذ؛ لأن «الأستاذ الأوحد» هو أشبه ما يكون بـ«الزعيم الأوحد». إن «المحاضرة» لا تهيئ العقول للإبداع، بل تؤهلها للخضوع والخنوع، لذلك حرصت على انتهاج طريقة بديلة، ورأيت ضرورة أن يعتمد الدرس الجامعى على الحوار بين الأستاذ وتلاميذه، مع الحرص على تنمية «التفكير الناقد» لدى الطلاب واستخدام أسلوب «العصف الذهني» معهم، وهى كلها أساليب ناجعة لتنمية قدرات أبنائنا العقلية، وذلك عوضًا عن «المحاضرة».
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ فإننى مؤمن إيمانًا راسخًا بأنه ينبغى على المرء ألا يتكبر على العلم، ولا يغتر بما حصَّله من معرفة؛ لأنه لم يعد من حق أحد أن يتباهى بكم المعلومات التى لديه، إذ صارت المعلومات في وقتنا الحاضر متوافرة بكثافة شديدة على الشبكة العنقودية (النت) في كافة المجالات العامة والخاصة، وبضغطة واحدة على لوحة مفاتيح الكمبيوتر يتدفق عليك كم هائل من المعلومات في الموضوعات التى ترغبها، ومن ثمَّ؛ فإن الأهم هو «المنهج العلمي» الذى يُكْسِبه الأستاذ لتلاميذه في كيفية التعامل مع المعلومة، وتحليلها وتوظيفها، والإفادة منها. 
لقد اعتدت منذ زمن أن أردد، على مسامع تلاميذي، داخل قاعات الدرس، أننا في هذه الحياة نجهل كثيرًا من الأمور، ونغفل أشياء وأشياء، ومن ثمَّ ينبغى أن يكون شعارنا «إننى لا أعرف شيئًا!!»، وهى المقولة التى كان يرددها دومًا الفيسلوف اليونانى «سقراط». هكذا أنصح بناتى وأبنائى من الطالبات والطلبة في الجامعة، وليس من اللائق أن أنصحهم بشىء، وأسلك في حياتى على نحو مخالف.
على المرء أن يتواضع مهما ارتفع شأنه، بل كلما ارتفعت مكانته العلمية زاد تواضعه؛ لأن الكِبْر في العلم أمر مكروه تمامًا. فالمرء إذا ملأه الغرور، وظن «أنه يعرف كل شيء»، فسيتحول إلى عقلية جامدة متحجرة!! وإذا تيقن المرء أنه على علم بكل شيء، فسوف يتوقف عن الإنصات لرأى غيره. كيف يستمع إلى آراء الآخرين؟ إنهم لن يقولوا جديدًا بالنسبة له، فهو يعرف كل شيء عن كل شيء!!
إن الشخص الذى يملؤه الغرور بما حصّله من علم، وبما وصل إليه من درجات علمية، متباهيًا علانيةً أن مؤلفاته – من كثرتها – يمكنها أن تحجب ضوء الشمس!! ويحلو له أن يردد مفتونًا بنفسه: إنه حصل على أعلى الدرجات العلمية منذ سنوات بعيدة، متصورًا أن ذلك مدعاة للفخر بالضرورة، إن مثل هذا الشخص لن تجده يقرأ كتابًا أو مقالًا.. لماذا يقرأ؟ وهو يتوهم أنه يعرف كل شيء عن كل شيء!! ولن تجده مهتمًا بمشاهدة برنامج أو فيلم. هو يظن أنه ليس في حاجة إلى كل ذلك؛ لأنه يعرف كل شيء!! وهكذا ينغلق أفق المغرور علميًا، ويضيق صدره بالرأى الآخر، ويتوهم أنه وحده الذى يمتلك كل الحقيقة!!
لا أحد يعرف الحقيقة كلها!! فإذا ضربنا مثلًا باللعبة الشعبية «كرة القدم».. عندما تذاع مباراة مهمة في كأس العالم، مثلًا، فإن المخرج التليفزيونى يستعين بأكثر من كاميرا لتصوير وقائع المباراة، ونقلها عبر شاشات التليفزيون. لنفترض أنه استعان بـثلاث كاميرات: الكاميرا الأولى؛ تكون محمولة على متن طائرة مروحية تحلق فوق المستطيل الأخضر لتصوير المباراة. والكاميرا الثانية تصور اللاعبين، عن مقربة، وهم يتسابقون ويتصارعون للاستحواذ على الكرة واقتناصها. أما الكاميرا الثالثة والأخيرة؛ فهى مُثَبتة خلف المرمى كى تقوم برصد حركة الكرة، لتحديد ما إذا كانت الكرة قد استقرت داخل المرمى أم أنها مرقت خارجه.
وإذا تساءلنا الآن:
أية كاميرا من هذه الكاميرات الثلاث، هى التى تنقل حقيقة ما يحدث في الملعب بدقة أكثر من الأخرى؟!!
 هل الكاميرا التى تصور المباراة من فوق سطح الطائرة المروحية، هى التى تنقل حقيقة ما يحدث في الملعب بدقة أكثر من غيرها من الكاميرات الأخرى؟!
 أم أن الكاميرا التى تصور اللاعبين عن مقربة وهم يجرون ويتصارعون على الكرة هى الأكثر دقة في وصف حقيقة ما يحدث؟!
 أم أن الكاميرا المُثَبتة خلف المرمى هى التى تعبر عن حقيقة الأحداث التى تقع داخل الملعب بدقة أكثر؟!
لو توقفنا قليلًا عن مواصلة قراءة المقال، وتفحصنا هذه الأسئلة، سعيًا للحصول على الإجابة الصحيحة، فماذا سنجد؟!
سوف نكتشف أن كل كاميرا من الكاميرات الثلاث تنقل جزءًا من المشهد، إن كل واحدة منها تلقى ضوءًا على جانب واحد من جوانب الصورة، وبالتالى فإن الكاميرات الثلاث تكمل كل منها الأخرى. ولا تستطيع واحدة بمفردها أن تصور كل ما يحدث.. ومن هنا علينا أن ندرك أننا لا نملك معرفةً بكل شيء.. نحن كبشر نملك جزءًا من الحقيقة، لا كل الحقيقة.. أنا أعرف جزءًا، وأنت تعرف جزءًا، وهو يعرف جزءًا.. وكل منا يكمل الآخر.. تمامًا كالكاميرات الثلاث التى تتشارك في تصوير المباراة!!
فإذا كنا نتحاور حول موضوع ما، وكنا ثلاثة أفراد مثلًا؛ فإنه من الضرورى أن ينصت كل منا إلى الآخر، ويفسح لصاحبه مجالًا للتعبير عن رأيه، إيمانًا بأن كل فرد يمثل كاميرا من الكاميرات الثلاث، وبالتالى هو قد يرى جانبًا من جوانب الموضوع ليس في وسع الأطراف الأخرى رؤيته، ومن ثمَّ ينبغى علينا الإفادة منه، لا أن نتشاجر معه، ونحاول كتم أنفاسه، والتقليل من شأنه وتجريحه. 
مشكلتنا في العالم العربى يمكن تلخيصها في أن كل واحد منا يظن، بل هو على يقين، أنه وحده يملك الحقيقة كاملة، وبالتالى هو دومًا على صواب!! ومن لا يرى رأيه ضال ومضلل، ومن ثمَّ ليس فقط ينبغى أن يُحرم من حقه في التعبير عن رأيه، بل ينبغى حرمانه من حقه في الحياة!!