يعد المفكر الراحل السيد يسين (١٩٣٣- ٢٠١٧) واحدا من أهم علماء الاجتماع فى مصر والعالم العربي، عمل بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، أسس العديد من مراكز الأبحاث الاستراتيجية أهمها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وعمل مديرا للمركز العربى للبحوث والدراسات، إلى جانب عضويته بالمجلس الأعلى للثقافة، قدم إلى المكتبة السوسيولوجية العربية عددا من المؤلفات الجادة، منها كتاب «تحولات الفكر الاستراتيجى المعاصر.. من الاستقلال الوطنى إلى الدولة التنموية».. والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب يقول: هناك إجماع بين الباحثين على أن الدراسات الاستراتيجية قد نمت نموًا غير مسبوق عقب الحرب العالمية الثانية باعتبارها ميدانًا من ميادين العلاقات الدولية من ناحية، وبحسبانها مجالًا متميزًا للبحث من ناحية أخرى.
والدراسات الاستراتيجية - كما عرفها أحد الثقات فى الميدان – هى «تلك التى تعنى بدراسة جوانب السياسات الدولية التى ترتبط ارتباطا وثيقا بظاهرة الحرب». وهى بذلك تركز أساسًا على موضوعات القهر والصراع واستخدام الوسائل العسكرية لتحقيق الأمن القومي. وقد أدى هذا التركيز إلى تحديد هذا الميدان الفرعى من ميادين العلاقات الدولية وجعله يدور فى إطار نموذج محدد من بين النماذج المتعددة لدراسة العلاقات الدولية. وقد كان لهذا جوانب إيجابية وجوانب سلبية معا. وتتمثل الجوانب الإيجابية فى أن هذا التركيز سمح بتعميق البحث فى الجوانب العسكرية لأهداف الدولة القومية، والمنافسة بين القوى الراضية عن نمط العلاقات الدولية وغيرها من القوى غير الراضية، والجوانب الاستراتيجية الخاصة بالقوى العظمى. وعملية بناء التحالفات بين الدول. والمشكلات الخاصة بسيادتها واستقلالها، والأسس الاقتصادية للقوى الاستراتيجية، بالإضافة إلى تحليل مواضع الصراع فى الساحة العالمية، ومشكلات الحفاظ على استقرار النظام الدولي.
غير أن الجوانب السلبية تتمثل فى أن ربط الدراسات الاستراتيجية بنموذج القوة فى العلاقات الدولية أدى إلى أنها أصبحت - على حد كبير - دراسات متمحورة حول الذات، ونعنى أساسا حول الذات الغربية. ويمكن القول بغير مبالغة أن أغلب الاجتهادات النظرية فى مجال الدراسات الاستراتجية قد خرجت من معطف «كلاوسفيتز» المنظر الألمانى الشهير. الذى ترك ولا يزال بصماته على التفكير الاستراتيجى المعاصر. ولما كان كلاوسفيتز معنيا أساسا بمشكلات السياسة الأوروبية فى عصره وعلى وجه الخصوص صراعات الدول القومية الأوروبية، وإن كانت نظرياته تجاوزت بحكم أصالتها وتفردها حدود الزمان والمكان، فإنه يمكن أن يثار السؤال حول مدى عموميتها، وصلاحية تطبيقها على مشكلات العالم الثالث.
لقد أدى التعريف بالغ الضيق لدراسات الأمن القومى – التى تستخدم فى كثير من الأحيان كمرادف للدراسات الاستراتيجية – والذى يذهب إلى أنها تتعلق بضروب التهديد الخارجية والصراعات بين الدول، إلى عدم وضع سمات صراعات العالم الثالث فى الاعتبار، بعبارة مختصرة ليس لدى هذه الدراسات الاستراتيجية ما تقدمه بصدد ضروب التهديد الأساسية التى تواجه دول مجتمعات العالم الثالث، بل وحتى بقائها ذاته.
لقد سقطت إلى الأبد التفرقة بين «السياسات العليا» و«السياسات الدنيا» وأصبحت الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بل والنفسية من المكونات الأساسية لمفهوم الأمن القومى بمعناه الحديث. ودخلت قاموس الدراسات الاستراتيجية مفاهيم مثل «نوعية الحياة» بالمعنى الفيزيقى والسيكولوجى والمساواة والعدالة، والتنمية القومية الشاملة، والاعتماد المتبادل بين الدول، والمشكلات البيئية العامة، والتعاون الدولي. وإذا كان بعض الباحثين فى استعراضهم لنمو وتطوير ميدان الدراسات الاستراتيجية يقررون أن اتساع هذا الميدان وتعدد جوانبه فى السنوات الأخيرة يمثل ملمحا بارزًا، فإن الملمح الثانى هو ظهور «موجة ثانية» أو توجهات جديدة فى الميدان تكشف عنها إدخال المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فى مفهوم الأمن القومي.
إن النموذج الأساسى الغربى للدراسات الاستراتيجية أصبح موضع شك وتساؤل من قبل الباحثين فى العالم الثالث. ومن هنا تصاعدت الدعوات لنقده وتجاوزه، بصياغة مفهوم جديد للاستراتيجية وللدراسات الاستراتيجية ينهض على السمات المتميزة للمشكلات التى تجابهها دول العالم الثالث ومنها ضروب التهديد للأمن القومى فى الدول الغربية المتقدمة تأتى من الخارج وليس من الداخل. وبالتالى فمشكلة الأمن لديها تتسم بتوجيه خارجي، وبعلاقة وثيقة بنظام الأمن الذى يقوم على المحاور والتكتلات. ومن هنا فهذه الدول تميل إلى تحليل مصادر التهديد وطرق مجابهته فى ضوء مفاهيم مثل «توازن القوى» و«التوازن الاستراتيجى» «والردع» و«إدارة الأزمات»، و«السيطرة على المخاطر».
وفى كثير من دول العالم الثالث نجد السكان منقسمين إلى جماعات متعددة وفق خطوط تقسيم سلالية ودينية وإقليمية وأحيانا مهنية، فهناك الحضر فى مقابل الريف، ودين مقابل دين آخر، وقبيلة ضد قبيلة، والمدنيون ضد العسكريين، والبيروقراطيون فى مواجهة الأكاديميين، كل هذه الانقسامات تؤدى إلى موقف منافسة غير صحى ويؤدى إلى مشكلات معقدة.
وتؤثر هذه الانقسامات على قضية التوحد مع الأهداف والمطامح القومية، وكثيرًا ما نجد أجزاء كبيرة من السكان ترسف فى إطار التقاليد القديمة ولا تكاد تمد نظرها إلى أبعد من دائرة مصالحها المباشرة الضيقة. وقد يؤدى هذا إلى حدوث تضاد بين الطرق التقليدية فى الحياة ومتطلبات الحياة التى تفرضها الدولة الحديثة بقوانينها وتشريعاتها.
وللحديث بقية..