• المقصود «بالديون» تلك التى أفرط في اقتراضها إلى حد السفه الخديوى الأول لمصر «إسماعيل» خامس حكام مصر من الأسرة العلوية خلال فترة حكمه، التى بدأت في 18 يناير 1863 إلى أن خلعه عن العرش السلطان العثمانى تحت ضغط إنجلترا وفرنسا «أكبر الدائنين لنا وقتها» في 26 يونيو 1879، وهى الديون التى قدرت وقتها بأكثر من ١٤ ضعف ميزانيه مصر، ففى وقت كانت ميزانية مصر لا تتجاوز ٧ ملايين جنيه اقترض الخديو ما يصل إلى ١٠٤ ملايين جنيه!!
• والبرلمان الذى نقصده في العنوان هو «مجلس شورى النواب»، الذى تأسس في العام 1866، وهو أول برلمان في تاريخ البلاد، والذى كان ميلاده نتيجه لخضوع الخديو إسماعيل لمطالب النخبة المصرية وقبوله بمشاركتهم معه في السلطة مقابل اعترافهم وتعهدهم للدول الدائنه بديونها.
• والدستور الذى نرمى إليه في عنوان المقال هو اللائحة الوطنية «1882» التى تعد أول دستور مصرى للبلاد، والتى كانت سببًا مباشرًا لاحتلال البلاد من قبل وكيل الدائنين «بريطانيا»، حيث رأت في الدستور خطرًا على وفاء مصر بديونها، فوجود دستور سوف يعطى نواب الأمة المصرية الحق لأول مرة في توزيع ميزانية البلاد كيفما شاءوا وإعطاء البلاد احتياجاتها أولًا، ثم إعطاء ما سيتبقى للدول الدائنة بعدما كان رئيس الحكومة يعطى الأولوية لتسديد أموال الدول الدائنة على حساب ما تحتاجه البلاد.
• وبداية العنوان شاذ وغريب، نعم لكنها الحقيقة التاريخية ليس إلا، أو قل إن شئت إنه مبدأ «دهاء التاريخ» وفقًا للفيلسوف الألمانى هيجل «1770/ 1831».
• حيث يقوم مبدأ «دهاء التاريخ» على أن أى حدث سيئ قد يتسبب في حدوث «خير» أو أن الحدث السيئ قد تكون له آثار جيدة، بالإضافة إلى آثاره السيئة، أو أن كل أزمة غالبًا ما يكون فيها فرصة كما يقولون في الثقافة الأنجلوساكسون.
• وإذا حاولت أن تقرأ التاريخ وفقا لمبدأ هيجل لاقتربت كثيرًا من الموضوعية ولتخلصت من الانحياز والميل ولتجاوزت الشخصى والوجداني.
ولدخلت إلى عالم رحب لا يعرف التشنج أو التعصب ولاستطعت أن تحكم على الأحداث بعقلانيه وتجرد.
• فقد تسببت الحملة الفرنسية على مصر مثلًا وهى حدث سيئ «طبعًا احتلال» في اكتشاف حجر رشيد وفى تذكير المصريين بأصولهم الفرعونية الخالدة وبمجدهم التليد، بعد أن عاشوا خارج التاريخ طوال فترة التبعية العثمانية التى فرضت عليهم أسوارًا من العزلة والانغلاق، وقبلها كانوا قد وقعوا تحت حكم ما تبقى من المماليك الذين اشتراهم واستقدمهم إلى مصر التركى أحمد بن طولون الذى خطف مصر من الخليفة العباسى.
• كما تسببت تلك الحملة الفرنسية، وذلك الاحتلال الغاشم في تعريف المصريين بالطباعة والمطبعة وفى إدراكهم مدى تخلفهم وحاجتهم إلى التغيير والنفير والإفاقة، فقد كانت الحملة بمدافعها المتقدمة وعلومها ومعاملةا المذهلة وقتها وزى جيشها اللافت سببًا في الإفاقة والاستيقاظ والإدراك للتخلف المديد، الذى كنا قد وصلنا إليه وقتها بعد طول تبعيه واحتلال.
• فقد رأى المصريون من يحكمونهم طوال قرون ويتسلطون عليهم من مماليك (عبيد أبيض) وعثمانيون يفرون بسيوفهم ودروعهم وخيولهم كالفئران المزعورة أمام مدافع نابليون وعرباته الحربية، وفى هذا السياق الفلسفى لهيجل ووفقًا لهذا المنهج العقلانى الموضوعي
فرغم إفراط الخديو إسماعيل حاكم مصر «إلى حد السفه» في الاقتراض من أوروبا «١٤ ضعف الموازنة»، والذى تسبب في فقدان مصر سيادتها جزئيًا بإدخال وزراء أجانب في الحكومة المصرية من أجل ضمان الدائنين استرداد أموالهم وقروضهم، ومرة أخرى تسبب في فقد مصر سيادتها كليًا عندما ضرب الأسطول الإنجليزي الإسكندرية واحتل مصر بالكامل وهو حدث سيئ ومفجع واحتلال.
حيث جاء يطالب بأموال الدول الدائنة الخمس باعتبار أن إنجلترا وقتها كانت وكيل الدائنين، كما هو معروف وكما هو متفق عليه بينهم، إلا أن ذلك الحدث السيئ «الاقتراض حد السفه» تسبب أيضا في إفاقة كبيرة للنخبة المصرية وأن يكون لمصر أول برلمان مجلس شورى النواب في العام 1866 وأول دستور «اللائحة الوطنية 1882م».
• كما تسبب ذلك الإفراط في الديون والاقتراض حد السفه في تحرك المصريين تحركا جادًا نحو السلطة ونحو تولى المسئولية والحكم بأنفسهم، كما تبلور أمامهم معنى «السيادة الوطنية» بجلاء وأهمية الحفاظ عليها.
• أدرك المصريون مخاطر أن يتركوا الشأن العام للحاكم الفرد وحده يصنع ما يشاء ويفعل ما يريد وحده، فقرروا أن يشاركوه في السلطة وأن يودعوا السلبية الوطنية إلى غير رجعه، فشكلوا البرلمان وكتبوا الدستور ورفعوا شعارهم لأول مرة «مصر للمصريين» ثم الاستقلال التام عن العثمانيين والإنجليز، عن المحتل المسلم والمسيحى، عن قصر عابدين «التبعيه العثمانية» وعن قصر الدوبارة «التبعية الإنجليزية»، مصر للمصريين والاستقلال التام أو الموت الزؤام «شعار ثورة عرابى وثورة 19» فيما بعد من أجل الاستقلال وعودة السياده الوطنية.
• كذلك فقد تسبب ما حدث من إفراط الخديو في الديون إلى حد السفه في تشكيل الجمعية الوطنية المصرية من 500 عضو، على رأسهم شيخ الأزهر وبطريرك الأقباط، والتى تحملت عبء تسديد الديون الضخمه للأجانب وإنفاذ الدستور وتشكيل حكومة وطنية وهو ما أرخ للمؤسساتية في مصر ولبدايات بناء الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها وسلطاتها ولعدم التوقيع للحاكم على بياض وفى بداية مشاركة الأمة للحاكم في السلطة ورقابتها عليه وتحجيم سلطاته المطلقة.
• صحيح أن الرائد والمفكر الشيخ الأزهرى الصعيدى رفاعة الطهطاوى، كان قد كتب عن الدستور منذ العام 1832 بعد عودته من البعثة الباريسية، إلا أنه لم يتحول إلى واقع إلا بعد 50 عاما من الأحداث الجسام، وخصوصا حادثة الديون والإفراط في الاقتراض.
• وفى ثورة المصريين عام ١٩ كان المصريون قد تعلموا من حركة العرابيين، والتى كانت البروفة الأولى لثورتهم وتعلموا من أخطائها وتبلورت حركة وطنية ناضجة ونجح المصريون في إلغاء الحماية البريطانية وإسقاطها تمامًا وفى اقتناص دستور ٢٣ الذى أسس لملكية دستورية لأول مرة فالملك رمز للدولة «منزوع السلطات» يمارس سلطاته من خلال الحكومة، لأول مرة، فالسلطة التنفيذية في يد رئيس الحكومة، والسلطة التشريعية يمتلكها نواب الشعب المنتخبون والقضاء تم النص على تأسيس استقلاله، والذى أنجز كاملا في العام ٤٧، وفى النهاية استقل المصريون وعادت السيادة الوطنية وأصبح المصريون شركاء في الشأن العام وراحوا يفرضون إرادتهم ويعملون مشيئتهم وودعوا السلبية كما ودعوا التوقيع لأى حاكم على بياض، ومن يتتبع حركة المصريين نحو السلطة ونحو المشاركة ونحو العمل الوطنى حديثًا سوف يكتشف أنه، لولا الديون.. ما كان البرلمان ولا كان الدستور!!