خلال الأيام الماضية، أدلى رئيس حزب الشعب الجمهورى، أكبر أحزاب المعارضة التركية، كمال كليتشدار أوغلو، بتصريحات أحدثت زلزالاً قويًا فى تركيا وخارجها، عندما أكد أن هناك انتخابات رئاسية مبكرة فى تركيا، وأنه أصدر توجيهاته للمسئولين والقيادات فى حزبه، بالنزول فى كل أنحاء تركيا لترسيخ هذا التوجه، واستثمار حالة الغضب المتصاعدة للشعب التركى من أردوغان وحزبه، سياسيًا.. وهو ما أبرزته وسائل إعلام تركية، وأكدت أن كليتشدار أوغلو أصدر هذه التوجيهات خلال اجتماع لجنة الإدارة المركزية للحزب الذى يتزعم المعارضة فى البلاد.
ما أدلى به «كليتشدار» تطور مذهل، خاصة أنه أعلن منذ أسابيع أن هناك حالة غليان فى الشارع التركى، وتوقع حدوث ثورة أطلق عليها «موجة القاع» موضحًا أن معظم الشعب التركى يعانون فى ظل أزمات تطحن عظامهم، بينما أهل القصر الرئاسى يعيشون فى حياة بذخ ونعيم، ومؤكدًا أن الأتراك يدركون جيدًا أن حزب العدالة والتنمية الحاكم بات عاجزًا عن إدارة بلادهم، ومن ثم يجب التحرك لإجراء انتخابات مبكرة.
وعلى الجانب الآخر وفى خطابه الأخير، أسقط الرئيس التركى رجب طيب أردوغان كل أقنعته التى كان يضعها على وجهه، وأظهر بوضوح مخططاته وأطماعه فى سوريا وليبيا ومصر والخليج، وذلك أمام منتدى «تى أر تى وورلد» والذى عقد فى إسطنبول، عندما قال: «الأتراك يتواجدون فى ليبيا وسوريا، من أجل حقهم، وحق إخوانهم فى المستقبل».. ثم أردف قائلا: «الأتراك اليوم يتواجدون فى جغرافيتهم احترامًا لإرث الأجداد، فهم من نسل «يونس أمره» فى إشارة إلى القاضى العثمانى الشهير.
ولم يكتف أردوغان بهذا الطرح الواضح وضوح الشمس فى كبد السماء، وإنما قرر التجويد فى الشرح، وإظهار مواهبه وإبداعاته حيث قال: «تركيا وريث الإمبراطورية العثمانية»، مشيرا إلى سعيه لإحياء ما وصفه بالمجد القديم للأتراك، وهو بذلك يكشف عن النوايا الحقيقية من وراء الدعم الذى تقدمه أنقرة إلى حكومة الوفاق والجماعات الإسلامية المنتشرة فى الغرب الليبى. هذه التصريحات، أزالت كل لبس، وفضحت كل من يحاول تبرير مواقف أردوغان، وتصويره باعتباره منقذ الأمة الإسلامية وداعى للحرية والديمقراطية والمدافع عن إرادة الشعوب العربية، دون مصالح أو أهداف سياسية، وهى التبريرات التى يروج لها ويؤصلها جماعة الإخوان الإرهابية، وأتباعها.
كما تكشف أيضا أن عبثه بمقدرات الأمة العربية، فاق الوصف، وتجاوز كل الخطوط الحمراء، وظهرت أطماعه، فى البحث عن إعادة إرث العثمانيين عن طريق احتلال الدول العربية، وتحديدا العراق ومصر وسوريا والخليج، مستثمرا حالة الحراك التى دشنتها ثورات «الخراب» فى ٢٠١١ لتنفيذ مخططه لذلك بنى قصرا شبيها بقصور السلاطين أجداده، واستعان بحرس يرتدى نفس الزى الذى كان يرتديه حراس أجداده، ولولا الملامة، لكان ارتدى هو نفسه زى السلطان العثمانى.
وعاش أردوغان الحلم، واستيقظ يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣ على كابوس، بطله المصريون، عندما خرجوا عن بكرة أبيهم وطردوا الإخوان من المشهد العام برمته، وأحبطوا مخططات الأطماع والتقسيم، فبدأ فى تكثيف جهوده للسيطرة على ثروات ومقدرات سوريا وليبيا والعراق، وانتهك سيادة أراضيهم، وأعطى لنفسه الحق فى أن يكون طرفا أصيلا فى معادلة المصير السورى السياسى، ويتدخل لدعم التنظيمات الإرهابية فى ليبيا، ويعبث فى منطقة القرن الأفريقى لخنق مصر، ثم والأخطر، انتهز فرصة تمرد وخيانة نظام الحمدين لأبناء عمومته فى الخليج بشكل خاص، وأمته العربية بشكل عام، واستطاع أن يضع أقدامه فى الدوحة، «ويستعمرها» لعل يأتى اليوم الذى يستطيع أن يتمدد فيه داخل باقى الجزيرة العربية.
ما يفعله أردوغان فى سوريا والعراق وقطر وحمايته لكل التنظيمات الإرهابية، ودعمه اللامحدود لجماعة الإخوان، مجرد خطة من خطط إحياء مشروع أجداده الرامى للسيطرة على الدول العربية وما البغدادى إلا مثال واضح لذلك، فهذا الداعشى الذى سبق الإعلان عن قتله عدة مرات، هو أحد العملاء الذين يعملون لصالح الإرهابى الأكبر أردوغان برعاية الولايات المتحدة والتى دأبت على حمايته طوال السنوات الماضية نظير ما يقدمه لها من خدمات فى إسقاط دول المنطقة حتى إذا ما انتهى دوره عملوا على الخلاص منه كما حدث هذه المرة وأعلن الرئيس ترامب بأنه تم قتله فى عملية ناجحة، قائلا إنه شاهد تسجيلا لعملية مطاردة وقتل البغدادى وعدد من مساعديه فى مجمع سكنى، وأضاف للتأكيد إن القوات كانت لديها بالفعل عينات من الحمض النووى لقائد التنظيم، استخدموها للتحقق سريعًا من أنهم أسقطوا الرجل الصحيح.
وحول كيفية اكتشاف مكان البغدادى، هناك أكثر من رواية، منها ما نشرته نيويورك تايمز، أن تحديد مكان البغدادى، جاء بعد اعتقال إحدى زوجاته وساعى بريد يعمل معه، وأن «سى آى إيه» عملت مع مسئولى الاستخبارات العراقية والكردية فى العراق وسوريا، لتحديد مكان البغدادى بدقة وزرع جواسيس لمراقبة تحركاته، وأن الخطة وضعت فى الصيف الماضى.
هناك رواية أخرى منسوبة لأحد مسئولى الأمن العراقيين «أن إسماعيل الغيثاوى - أحد مساعدى البغدادى - وشى به، بعد القبض عليه ونقله إلى العراق وأنه قدم معلومات ساعدت على معرفة تحركات البغدادى، والأماكن التى كان يختبئ فيها، وأن فرق المخابرات العراقية حصلت على معلومات من أحد كبار مساعدى البغدادى عن كيفية إفلاته من القبض عليه لسنوات عديدة، وهنا إشارة إلى دور عراقى فى عملية تحديد مكان البغدادى.
وأوضح المسئولون الأمريكيون أن تخطيط العملية قام بتكليف وحدة كوماندوز تابعة لقوة «دلتا» الخاصة فى وضع خطط للتدريب على القيام بمهمة سرية لقتل خليفة «داعش» أو القبض عليه، وأن العملية واجهت عقبات هائلة، حيث كان الموقع عميقًا داخل أراض يسيطر عليها تنظيم القاعدة، وسماء ذلك الجزء من البلاد كانت تحت السيطرة السورية والروسية، لدرجة أن المهمة تم إلغاؤها مرتين.
فعليًا كان البغدادى مختفيًا منذ ٥ سنوات، منذ نصب نفسه خليفة عام ٢٠١٤، وظهر فى فيديو مرة، وفى تسجيل صوتى مرة أخرى، وقد أعلن التنظيم عن عبدالله قرداش زعيمًا له خلفًا للبغدادى، وهو ضابط سابق فى الجيش العراقى وأحد نجوم الإرهاب. لكن استمرار التنظيم نفسه مرهون بمدى إمكانية توفير تمويل ونقاط تمركز يمكن فيها إعادة تجميع الفلول المنتشرة فى سوريا والعراق لإعادة التنظيم. وهو أمر يبدو صعبًا فى الوقت الحالى، خاصة مع تلقى التنظيم لهزائم، وظهور أوراق كثيرة عن علاقة الرئيس التركى وقطر بتمويل القاعدة وداعش، بمعرفة الأجهزة الأمريكية فى عهد أوباما، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكى علنا فى حملته الانتخابية وما بعدها عندما أكد أن هيلارى كلينتون وأوباما ساعدا فى قيام داعش وتوسع النصرة وغيرهما من التنظيمات الإرهابية. لكن استعادة داعش تبدو صعبة فى حال غياب التمويل، لكن هذا لا يمنع من بعض التحليلات التى تتوقع أن يحاول التنظيم القيام بعمليات انتقامية لمقتل البغدادى، مع احتمالات لحدوث انقسام فى التنظيم.
فهل ما يفعله أردوغان من اهتمام بدعم الإرهاب وتجاهل لمطالب شعبه بداية الطريق لسقوطه وصعود المعارضة التركية لتولى أمر البلاد، هذا ما سنعرفه الأيام المقبلة.