كمن يسير على الرصيف وهو يبصر خطواته ويلتزم بآداب الطريق، ثم يفاجأ بحجر يسقط على رأسه من أعلى ليصيبه بنزيف يحول مسار حياته إلى ما لم يفكر فيه من قبل، كمثل هذا الرجل استقبلت ذلك الإعلان الغريب والمريب عن قيام مملكة جديدة على الحدود المصرية السودانية بمساحة تصل إلى ألفى كيلو متر مربع، تقع جميعها داخل الحدود السودانية في المنطقة المعروفة بـ«بئر الطويل»، وهى منطقة خلاف قانونى بين مصر والسودان؛ حيث تصر السودان أنها تابعة لمصر حسب اتفاقية 1902، بينما تصر مصر أنها تابعة للسودان وفق اتفاقية 1899، وهكذا أصبحت أرض هذه المنطقة مستباحة، فهى بلا صاحب حتى ظهرت فجأة سيدة أمريكية من أصل لبنانى تدعى «نادرة عواد ناصيف»، لتعلن في فيديو تم تصويره في أوكرانيا عن قيام مملكة «الجبل الأصفر»، منصبة نفسها رئيسة لوزراء هذه المملكة المزعومة، ورافضة الإفصاح عن اسم جلالة الملك أو مكان إقامته، مشيرة فقط إلى أنها تتحدث باسمه ونيابة عنه، وأن مملكة «الجبل الأصفر» ستكون نموذجًا لدولة فريدة قضيتها السلام وحل أزمة جميع المهجرين والنازحين في الوطن العربى، وإذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي لم تستقبل هذا الأمر بالاهتمام والجدية المطلوبين، فهذا إنما يدل على أن ثمة ما يحاك للأمة العربية في الخفاء، فخطة التقسيم وإعادة رسم خريطة المنطقة من جديد لم تمت ولم يتم التراجع عنها كما يظن البعض، وهذا ما أعلنه جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكى السابق، في مقال نشرته «واشنطن بوست» منذ عدة أشهر، حيث كتب يقول: «إن الحل الأفضل للأزمة في العراق هو إقامة إقليم في الوسط للسنة، وآخر في الجنوب للشيعة، وثالث في الشمال للأكراد»، ونفس الأمر بالنسبة لسوريا واليمن وليبيا، وواقع الأمر أن خطة إعادة تقسيم المنطقة قد بدأت منذ زمن بعيد، وتحديدًا بعد انتصار مصر والعرب في أكتوبر 73، فلقد كان لهذا الحدث أثره الكبير بداخل الولايات المتحدة التى ترفض دائمًا هزيمة سلاحها أو تهديد أمن إسرائيل، فإذ بالأمرين قد حدثا في أكتوبر 73، بالإضافة إلى شىء آخر أربك كل الحسابات، وهو اتحاد العرب ومنع تصديرهم البترول طوال أيام الحرب، مما أطفأ أنوار الشوارع في أمريكا، وأوقف حركة سير السيارات، هنا قررت أمريكا وضع خطة لعدم تكرار ما حدث مرة أخرى، على أن تبدأ هذه الخطة بالاتحاد السوفيتى، العدو الأكبر لأمريكا، والذى انتصر سلاحه على السلاح الأمريكى في المعركة، وكتب الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون كتابه المهم «نصر بلا حرب»، والذى تحدث فيه عن كيفية تحقيق النصر دون دخول الحرب، وذلك بالمهام الاستخباراتية، وسقط الاتحاد السوفيتى في 1990، وباتت أمريكا هى القطب الأوحد في العالم، ونشر رئيس الوزراء الإسرائيلى شيمون بيريز كتابه الخطير «الشرق الأوسط الجديد»، والذى صدر في 1996، ليقدم لنا للمرة الأولى هذا المصطلح الذى صار حديث الجميع حتى يومنا هذا، ويطرح بيريز في هذا الكتاب رؤيته لشكل وطبيعة العلاقات بين دول الشرق الأوسط في ضوء ما حدث بعد سقوط الاتحاد السوفيتى ومؤتمر مدريد، ثم اتفاق أوسلو في 1993، وتأتى بعد ذلك كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، متحدثة عن الفوضى الخلاقة، تلك الفوضى الذى سيخلق منها الشرق الأوسط الجديد، فالولايات المتحدة لم تستطع أن تتناسى ما حدث لها أبان حرب أكتوبر 73، ولذا فلم تحد يومًا عن خطة إعادة تقسيم المنطقة وفق نزعات عرقية ومذهبية طائفية، لتضمن عدم اتحاد العرب مرة أخرى، وتضمن كذلك السيطرة الكاملة على كل الموارد الطبيعية الموجودة بالمنطقة، وباسم الديمقراطية تدعم الولايات المتحدة كل حركات التمرد والعصيان ودعاة الانفصال في سائر البلدان العربية، وقد تجلى ذلك في السودان الذى تحول إلى دولتين، وربما تولد فيه في القريب العاجل دولة ثالثة، وربما رابعة إذا ما تم الاعتراف الدولى بمملكة «الجبل الصفر» المزعومة، علمًا بأن أرض هذه المملكة المزعومة تسكنها بعض القبائل العربية من بنى عامر والعبابدة والكنوز، وأغلبهم رعاة متنقلون ما بين مصر والسودان، ومن الخطأ أن نتعامل مع هذا الأمر بالاستخفاف والتهكم والسخرية، فكل الواقع الذى نعيشه كان خيالًا في الماضى، فحين أعلن تيودور هرتزل في 1898 أن دولة يهودية ستقام بعد خمسين عامًا على أرض فلسطين لم يصدقه أحد، وتعامل أجدادنا مع هذا الإعلان بالاستخفاف واللا مبالاة، واعتبروه مجرد خرافة لا تحتاج للرد، فإذا بالخرافة تتحول إلى واقع معيش، ولا أظن أن أحدنا كان يتصور أن يوما سيأتى وتصبح على الخريطة دولة مستقلة ذات سيادة اسمها دولة جنوب السودان، وما كان أحدنا يتصور أن كردستان ستعلن انفصالها واستقلالها عن دولة عربية كبرى اسمها العراق، ولذا يجب أن نتعامل بحذر واهتمام مع ما ذكرته السيدة نادرة ناصيف التى تدعى أنها رئيسة وزراء هذه المملكة المزعومة، ولا بد من معرفة أسباب هذا الإعلان في هذا التوقيت ومن وراءه وما الهدف منه؟
آراء حرة
مملكة الجبل الأصفر
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق