جميعنا انتابته مشاعر الغضب حيال الكمسرى الذى وضع ضحيته «محمد عيد» بين خيارى دفع ثمن تذكرة القطار أو القفز منه، لكن أحدا منا لم يفكر أنه قد يصبح قاتلا مثل «الكمسرى» أو ضحية مثل «عيد» بعد لحظات.
أعتقد أن محصل تذاكر القطار (934) لم يقصد دفع عيد إلى حتفه، لكنه الاستهتار الذى جعله لا يقدر عواقب تهديده ووعيده، ربما لأنه اعتاد ممارسة هذا السلوك الذى يشعر معه بأنه صاحب سلطة ما، وربما أنه اعتاد الاستمتاع برؤية ضحاياه يقفزون بحركات بهلوانية خارج القطار المسرع دون أن يطالهم أذى، وهو ما حدث مع أحمد سمير الشاب الثانى في الواقعة، الذى لم يصب سوى ببضع كدمات؛ أى أن النجاة كانت احتمالا واردا بالنسبة لمحمد عيد، فلو أنه نجح في القفز بسلام لما كانت هناك قضية نتحدث عنها.
الواقع هذا ما تشهده أغلب القطارات التى لا تكف عن الحركة طوال الوقت، غير أن تلك المشاهد لا تقتصر على خطوط السكك الحديدية، فأغلب الطرق السريعة قد تحولت إلى مسرح لاستعراض كل أشكال العدوانية والتنمر المصبوغة بالسادية، فسائقو المركبات يبدون وكأنهم يستمتعون بإرهاب الآخرين وإثارة مشاعر الرعب والخوف في نفوسهم عند اقتحام حارات الطريق بعشوائية ودون أدنى مراعاة لقواعد السير.
يكفى تجربة قيادة السيارة على الطريق الدائرى لمرة واحدة حتى تكتشف عزيزى القارئ إذا كنت ملتزما بقواعد المرور وأخلاقيات الطريق أن الجميع قد قرر ممارسة ساديته ضدك، ولا فرق في ذلك بين سيارة خاصة فارهة وأخرى زهيدة الثمن، أو شاحنة نقل ثقيل، أو ميكروباص أجرة، بل أو حتى دراجة نارية «موتوسيكل».
مررت بهذه التجربة أكثر من مره وكنت أشعر أن كل قائدى المركبات على هذا الطريق يجتمعون في نهاية اليوم على مقهى واحد ليتفاخر كل منهم بعدد السيارات التى اقتحمها ودفعها غير مكترث لتنزلق تحت عجلات شاحنة نقل ثقيلة، وبعدد الضحايا الذين سقطوا جراء مغامراته على الطريق الدائرى.
لولا احترامى لمبدأ عدم التعميم لقلت إن كل من تعاطف مع ضحية الكمسرى، هم قتلة أو في طريقهم إلى ذلك، وربما أيضا ضحايا محتملين.
سلوك الكمسرى الشائع قطعا بين أغلب زملائه، تجسيد لمستوى الأخلاق الذى وصلنا إليه، وتعبير حى عن عدم احترامنا للقانون والتزامنا بقواعده، وكذلك الطرق السريعة مرآة كبيرة تواجهنا كل لحظة بتلك الحقيقة.
وإذا كنت سيدى القارئ ممن غضبوا لمقتل الشاب محمد عيد بهذه الطريقة، ومارست تنمرك تجاه الدولة وكتبت على حسابك في فيسبوك إن تعليمات وزير النقل بملاحقة المتهربين من دفع التذاكر وراء قتل عيد وأن حياة المصريين لا تساوى أكثر من 70 جنيها بالنسبة للحكومة، إذا كنت من هؤلاء أدعوك إلى مراقبة نفسك عندما تقود سيارتك داخل شوارع محافظتك، كم مره تعمدت كسر إشارة المرور؟! وكم مره خالفت السرعة المحددة؟!
ألم تسأل نفسك مرة واحدة لماذا تلتزم بالسرعات المقررة على الطرقات عندما تعرف بوجود الرادار، ثم تطلق العنان لسيارتك فور خروجك من مجاله؟!
أغلبنا لم ينتبه إلى أن جريمة قتل محمد عيد بسلاح الاستهتار واللامبالاة فرصة كبيرة لمراجعة نفسه، ويسأل كم عدد ضحاياه الذين نالهم الأذى بسبب استهتاره في عمله ولا مبالاته بأداء واجبه على النحو الأكمل، أيا كان ذلك العمل من عامل النظافة إلى الموظف والمدرس إلى الطبيب والمحامى والصحفى والأستاذ الجامعى والمسئول الكبير.
بدلا من ذلك كان الأسهل علينا جميعا ممارسة هوايتنا المفضلة وهو استغلال الحادث كفرصة للتنمر على الدولة ومؤسساتها، وتحميل وزير النقل المسئولية وكأنه هو من أمر الكمسرى بدفع كل متهرب خارج القطار أثناء سيره على القضبان.
وبعيدا عن حديث مراجعة الذات، لنسأل أنفسنا سؤالا بسيطا كم مرة قفزنا من القطار في بداية دخولة المحطة قبل أن يتوقف تماما لنستمتع بلعبة بهلوانية غير عابئين بالضرر الذى قد يقع علينا ؟! بل كم مره قفزنا في الأتوبيس أو خارجه أثناء إبطاء سيره؟!، بل كم مرة شاهدنا من يقوم بهذا الفعل دون أن نستنكره؟.
من أهم تصريحات الفريق كامل الوزيرى إعطاء كل العاملين بهيئة السكك الحديدية دورات تدريبية وإخضاعهم لبرامج تأهيل نفسي، وأظننا جميعا بحاجة إلى هذه الدورات، لنعرف كيف نطبق القانون فالكمسرى القاتل كان يعتقد أنه ينفذ القانون عندما طالب الضحية وصديقه بقيمة التذكرة وخيرهم بين التسليم إلى الشرطة أو القفز حتى لا يكون في القطار متهرب بينما القانون والتعليمات لم تضع القفز خارج القطار ضمن الخيارات، مكتفية بخيارى الدفع أو التسليم للشرطة.
كذلك كان إخضاع جميع العاملين بهيئة السكك الحديدية إلى اختبار كشف المخدرات أحد أهم قرارات وزير النقل، وأتصور أن كل مؤسسات الدولة بلا استثناء معنية بإخضاع موظفيها إلى هذا الاختبار مرة كل عام على الأقل، بل إن شركات القطاع الخاص وحتى محال السوبر ماركت والمقاهى والورش مدعوة لهذا الإجراء أيضا، لأننا كمجتمع نتسامح فيما بيننا مع متعاطى الحشيش وأقراص الترامادول وغيرها وهذه حقيقة لا أظن أن كثيرا منا ينكرها، ولا ينبغى أن نستهتر بالتأثير الخطير الذى تحدثه المواد المخدرة على إحساس الفرد المتعاطى بالمسئولية.
وبالمثل أتصور أن أجهزة ومؤسسات الدولة وكل هيئة أو مؤسسة حريصة على نجاحها مدعوة أيضا للأخذ بمبادرة وزير النقل الخاصة بتنظيم دورات تأهيل نفسى لاسيما أن الضغوط التى نتعرض لها يوميا بسبب قسوة ظروف الحياة قد تؤثر سلبا على صحتنا النفسية مما ينعكس سلبا على آدائنا ويجعلنا نؤدى أعمالنا بنوع من الاستهتار واللامبالاة.