احتشد اللبنانيون في الساحات والميادين، يوم السابع عشر من أكتوبر الجارى، وحتى اللحظة، احتجاجًا على ما أعلنته حكومة سعد الحريرى من رفع الضرائب والرسوم على استخدام الواتس آب، وقد أدت الإجراءات والقرارات التى اتخذتها الحكومة اللبنانية إلى رد فعل غاضب وسريع في الشارع اللبنانى أدهش اللبنانيين أنفسهم، قبل أن يُدهِش العالَم، حجم الحشود وعفويتها وطابعها السلمى، وامتدادها من طرابلس شمالًا إلى صور جنوبًا مرورًا بالنبطية وبعلبك وصيدا، وارتكازًا في العاصمة بيروت ذاتها، مما أدى إلى تراجع الحكومة عن قرار فرض الضرائب، ودفع رئيس الوزراء للخروج معلنًا في بيان رسمى ورقة إصلاحية بتحقيق مطالب الجماهير المحتجة على الفساد المستشرى في كل مفاصل الدولة.
زاد سقف المطالب الجماهيرية، وأعلن المحتجون إصرارهم على رحيل زعماء القوى السياسية التى يُحَملونها سبب تدهور الوضع الاقتصادى في البلاد. إن تلكؤ الحكومات وتأخرها في الاستجابة لمطالب الناس، يزيد من تعقد الأوضاع، فعندما تخرج الجماهير بأعداد ضخمة، تفشل الجهود المبذولة في تهدئة مطالب الشارع، وهذا ما نلمسه بوضوح في المشهد اللبناني، فلقد ارتفعت مطالب الجماهير من إلغاء الضرائب وتحسين الوضع الاقتصادى للمواطن، ومحاربة الفساد، إلى المطالبة برحيل الطبقة الحاكمة بكل رموزها، وفقًا للشعار الذى رفعه الشارع اللبنانى «كلكن يعنى كلكن»!!، وإلغاء النظام السياسى القائم على الطائفية والمحاصصة، والمطالبة بأن تكون الكفاءة والأهلية والنزاهة هى المؤهل لشغل المناصب السياسية والإدارية في الدولة، وليس الطائفية أو المحسوبية.
إن المشهد الجارى في لبنان الآن أثار كثيرًا من الجدل حول مستقبل لبنان: هل خروج الجماهير واعتصامها في الساحات والميادين سوف يأخذ لبنان إلى طريق السلامة أم إلى طريق الندامة؟ اختلفت إجابات المحللين والمراقبين وتعليقاتهم عن هذا السؤال، فرأى البعض أن لبنان أمام أحد خيارين، إما إجراء إصلاحات جذرية في بنيته السياسية الطائفية التى لم تعد تحظى بالثقة، والتى كان منصوصًا على أن تكون الطائفية مؤقتة وفق اتفاق الطائف عام 1989. بالإضافة إلى تشكيل حكومة طوارئ أو حكومة تكنوقراط وإجراء انتخابات جديدة على أساس قانون انتخابى جديد ينص على جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة، على أساس قوائم متنافسة تحصل على مقاعد تتناسب مع نسبة الأصوات دون التقيد بالمحاصصة الطائفية، أو رفض الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة للمطالب الشعبية هذه، ومحاولة فض الاعتصامات، وتفريق الحشود بالقوة، مما يؤدى إلى صدامات مسلحة، انزلاق لبنان إلى العنف، الذى قد يصل إلى حد نشوب حرب أهلية.
وأود في هذه السطور أن أعرض وجهة نظرى لا على ما يجرى في لبنان فحسب، بل أيضًا تحليلًا وتفنيدًا لما قدمه بعض المحللين والمراقبين من أطروحات وحلول، محاولًا تلخيص وجهة نظرى في النقاط التالية:
أولًا: لاحظت أن نظرية المؤامرة كانت حاضرة بقوة في كثير من الآراء والتعليقات والتى تذهب إلى أن هناك شكوكًا قوية حول وجود تمويل خارجى لهذا الحراك الذى يحتاج إلى مصروفات طائلة.
ثانيًا: لقد تم اختزال هذا الحراك الشعبى الهائل في لبنان وتقزيمه في قضية واحدة، وهى: «هل سيتم الإطاحة بحزب الله أم الإبقاء عليه؟!».
ثالثًا: معظم الآراء التى طُرِحَت، كانت تنطوى على فرض موجود بشكل ضمني، دفع أصحاب هذه الآراء إلى الحديث عن لبنان وكأنه وطن بلا شعب.
رابعًا: سادت صورة ذهنية في معظم الآراء التى طُرِحَت، مؤداها، أن الذل والرضوخ للحكام الفسدة والمفسدين، هو «حتمية تاريخية» أو قضاء مبرم لا فكاك منه.
خامسًا: كما نجحت الدعايات المسمومة التى تُبَث ليل نهار - عبر إعلام ضال ومضلل – والتى تردد القول بأن أى تحرك شعبى لإزاحة الظلم والظالمين، سوف يؤدى حتمًا إلى انهيار الدولة، وضياع الأوطان، وتشريد الشعوب، نجحت حتى صارت لدينا «فوبيا» وتوجس وخشية من أية دعوة للمطالبة بحقوقنا المهدرة على أيدى حكام استهانوا وأهانوا شعوبهم.
سادسًا: إذا ثار الشعب مطالبًا بحقوقه المهدرة.. اتهمناه بأنه أحمق وأهوج وغير مقدر للعواقب والمخاطر والمؤامرات التى تحاك ضد الأمة. أما إذا سكن الشعب وهدأ متقبلًا كل المظالم، اتهمناه بأنه خانع وخامل ومستكين وفاقد للوعى وغير مؤهل للديمقراطية كبقية الشعوب المتحضرة!!
سابعًا: إن «حزب الله» رغم انتماءاته لدولة خارج لبنان، وهى إيران، لكونه شيعيًا، وممولًا من تلك الدولة، ومدعومًا سياسيًا منها، وكان يمثل رمزًا حيًا للمقاومة، فإنه من الصحيح أيضًا عدم جواز اختزال لبنان كل لبنان، في حزب الله، بحيث تتم مصادرة إرادة الشعب اللبنانى ويصبح لبنان والشعب اللبنانى رهينة إرادة حسن نصر الله وميليشياته المسلحة. إن هذه الحشود الشعبية اللبنانية التى خرجت محتجة ورافضة للطائفية والمحاصصة، تلك الحشود الثائرة التى تعادل كثافتها نصف سكان لبنان، إن لم تزد، إضافةً إلى تأييد اللبنانيين الذين بالخارج لهذا الحراك الشعبى، هل المطلوب صرفهم إلى بيوتهم – كما حاولت أن تفعل ذلك ميليشيات حزب الله – وكأنهم قطيع من الأنعام أو حشد من الدواجن؟!
ثامنًا: اتضح من متابعة الردود والتعليقات على ما يجرى في لبنان أن الاستهانة بإرادة الشعوب ليس أمرًا مقصورًا على النظم الشمولية وأبواقها الإعلامية، وإنما صار تغييب دور الشعب، والاستهانة بإرادته هو عقيدة عند قطاع كبير من المثقفين. لذلك تمحورت معظم التعليقات والردود حول إرادة الولايات المتحدة، وماذا تريد من لبنان؟! إرادة إيران، وماذا تريد إيران من لبنان؟! إرادة إسرائيل، وما هى أطماع إسرائيل في لبنان؟!
لكن أحدًا لم يذكر شيئًا عن إرادة الشعب اللبنانى التى خرجت هذه الحشود لتعبر عنها!! إن تهميش إرادة الشعوب وإغفال قوتها في صنع مصائر الأوطان ومستقبلها كان ولا يزال سببًا رئيسيًا لتأخر المنطقة العربية وتخلفها.