إذا أردنا أن نقرأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فعلينا أن ننظر إلى حلفائه وأعدائه وطريقته في بناء العلاقات سواء الإنسانية أو علاقاته بالأحزاب والتيارات السياسية داخل تركيا، أو حتى على مستوى العلاقات السياسية الخارجية.
رجب طيب أردوغان كان صديقًا وفيًا وتلميذًا للرجل الأول في تنظيم الإخوان المسلمين في تركيا، نجم الدين أربكان، والذي سبق وشكل الوزارة بعدها ذهب مع مشروعه إلى طي النسيان، ولم تعد له قائمة ولا لتنظيمه حتى وفاته.
خرج أردوغان من حزب الرفاة الذي كان يرأسه أربكان وقتها ودشن حزب العدالة والتنمية حتى نجح في الوصول إلى سدة الحكم بدءًا من منصب رئيس وزراء تركيا وحتى تعديل الدستور التركي فيما بعد والوصول لمنصب رئيس الجمهورية، فهيأ لنفسه أن يظل إمبراطورًا وسلطانًا لتركيا قرابة عشرين عامًا.
أثناء ما قبل أن يستقيل أردوغان من حزب الرفاة تواصل مع المفكر التركي محمد فتح كولن، وكان يشتكي إليه أربكان وسياساته وأنه ما عاد يطيق الاستمرار معه في حزبه، وكان الرجل وقتها يتطلع للزعامة، حتى أنه قال بضرورة التخلص من "كولن" نفسه، بعد أن خرج من بيته مشتكيًا له، نظرًا لسلطته الروحية على كثير من الأتراك، قال هذا الكلام أمام خادم "كولن" الذي نقله لسيدة قبل ثلاثين عامًا، والعهدة على "كولن" في الرواية.
ورغم هذه العلاقة فسرعان ما أنقلب أردوغان على أربكان حتى حل محله، ورغم أن الانقلاب كان سريعًا إلا أنه عاد وأقام علاقات جيدة مع الإخوان المسلمين في تركيا ممثلين في حزب السعادة، بينما انقلب الرجل على حركة الخدمة ورجال محمد فتح كولن، واعتقل كل من انتمى إلى "الحركة" وأغلق المدارس التعليمية التي افتتحوها وكذلك الصحف والمجلات التنويرية التي كانوا يكتبون فيها.
أردوغان رجل المصالح، أينما كانت مصلحة الرجل ذهب إليها بعيدًا عن أية عهود، ويستخدم في ذلك كل الوسائل والأدوات التي تتيح له أو تجعله يستثمر هذه المصلحة لنفسه، وهو ما دفعه في أول الطريق للعمل تحت لافتة الإخوان المسلمين ثم ينقلب عليها ثم يعود للتحالف معها مرة أخرى، حتى بات «الإخوان المسلمين» في تركيا ومن غير الأتراك أيضًا هم أكثر الحلفاء الذين يبررون سلوكياته السياسية وقمعه للمعارضة وسلوكه العسكري الأخير بغزو شمال الفرات، وفي نفس الوقت دخل في عداء شديد مع حركة الخدمة بكل مكوناتها.
أردوغان بهذه السياسة أعاد علاقته بتنظيم «القوميون الأتراك» أو ما يعرفون بــ "أرجينيكوم"، وهذا التنظيم يمثل في تركيا امتدادًا للدولة العميقة التي سبق وحاولت الانقلاب عليه أكثر من مرة، ورغم صدور أحكام قضائية على قيادات هذا "التنظيم" والذي يبدو سريًا إلا أنه أخرجهم من السجون بتعديل دستوري، هذا التعديل نص على خروج كل من استمر خمس سنوات داخل السجن، وعندما التقى زعيم هذا "التنظيم" وسألت وسائل الإعلام أردوغان على ما حدث في لقائهما رد قائلًا: ما دار بيننا سوف يدفن في قبري وقبر قائد وزعيم أرجينيكوم، وهذا يدل على أن الرجل لا يمانع في أن يضع يده في يد قاتليه لمصلحة سياسية! يتخلى عن القانون والقيم من أجل هذه المصلحة التي هندمها بحيث تكون على مقاسه هو لا غيره.
نتفهم العلاقة السيئة بين رجب طيب أردوغان وبين محمد فتح كولن، فإذا كنا نرى الأول متسلطًا وقمعيًا وأحد الداعمين الأساسيين للإرهاب في العالم، فمن الطبيعي أن تسوء علاقته بالثاني، طالما كان تنويرًا ويقف أمام خط أردوغان، فكلاهما لن يلتقيا على خط واحد إلا في شكل المواجهة.
اختلف محمد فتح كولن مع نجم الدين أربكان ومع مسار جماعات الإسلام السياسي، فمنهجه يسير في اتجاه التغيير الأفقي وليس الرأسي، يرى التغيير لابد أن يكون من القاعدة لا من القمة، ولا يكون فرضًا بل اختياريًا، وهو يناقض تمامًا مشروع تنظيمات الإسلام السياسي أو من سارت نحوها، فعلى قدر اهتمام الرجل بالمؤسسات التربوية على قدر رفضه لكل أفكار العنف والإقصاء، ولعل هذا سبب يُضاف لأسباب الخلاف العميق بين كلا المشروعين، مشروع أردوغان ومشروع الخدمة ويقع على رأسه، محمد فتح الله كولن.
على قدر ما وضع "كولن" نصب عينيه مهمه الارتقاء بمستوى التعليم من خلال فتح المدارس داخل وخارج تركيا حتى تم فتح هذه المدارس في أكثر من 170 دولة حول العالم، على قدر ما كان عداء أردوغان ومشروعه التنويري، فمشروع الأخير يتلخص في الوصول للسلطة والسيطرة عليها وامتداد هذا المشروع لأكثر من قطر عربي حتى يقف زعيمًا وسلطانًا كما كان أجداده في الماضي.. وللقصة بقية.