منذ الاستفتاء البريطانى في 23 يونيو 2016، والذى كانت نتائجه لصالح الانسحاب للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، أو ما يعرف بالـ«بريكست»، تشهد لندن والقارة الأوروبية بل والعالم بأكمله حالة من الترقب، بانتظار ما ستسفر عنه مسألة مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، في 31 أكتوبر الجاري، رغم أن الأطراف المعنية، «بريطانيا وأوروبا»، لم تتوصلا لاتفاق حول عملية الخروج، أو ربما الخروج دون اتفاق.
ويأتى الاهتمام العالمى بالـ«بريكست»، بسبب التأثير السياسى والاقتصادى للخروج على دول كثيرة، فعلاقة بريطانيا متشعبة لكنها تبقى حتى الآن في إطار الاتحاد الأوروبي، فماذا لو انفصلت عنه.
والسؤال الذى يهمنا كمصريين وعرب، هو كيف ستؤثر عملية خروج بريطانيا من أوروبا سواء باتفاق أم بدون، على مصر والدول العربية؟.. فمصر مثلًا تشارك لندن في عدة ملفات اقتصادية وسياسية وثقافية، وأيضًا مواجهة ظاهرة اللاجئين والهجرة غير الشرعية، والأخيرة أى الهجرة غير الشرعية يمكن أن تتأثر باعتبار أن بريطانيا لن تكون مهتمة بهذه القضية التى تشغل بال الاتحاد الأوروبي.
وترتبط مصر مع بريطانيا، بعلاقات وثيقة وتاريخية، تحركها المصالح المشتركة والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وتمتاز بالتقارب في وجهات النظر على الصعيد السياسى تجاه العديد من قضايا السياسة الإقليمية والدولية التى تحظى باهتمام مشترك، حيث كانت مصر ولا تزال ركنًا أساسيًا للاستقرار في المنطقة، ومع تعقيد الملفات الكبرى وعلى رأسها سوريا والعراق وأزمة اللاجئين، وصعود الطائفية، تجد «لندن» أن الحوار الاستراتيجى مع القاهرة شديد الأهمية.
وتُعد بريطانيا إحدى أكبر الدول المستثمرة في مصر، بنحو 5.6 مليار دولار في 1450 شركة ومشروعًا، تغطى قطاعات الخدمات المالية والطاقة والإنشاءات والسياحة والمنتجات الدوائية والمنسوجات والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ولعبت بريطانيا دورًا إيجابيًا في دعم المطالب المصرية خلال المفاوضات مع الاتحاد الأوروبى حول إبرام اتفاقية المشاركة المصرية - الأوروبية، وتُعد بريطانيا ثالث أكبر شريك تجارى لمصر بعد الصين وإيطاليا، كما تحتل مصر المركز السادس كأكثر الدول المصدرة لبريطانيا في المنطقة، وقد زار مصر 415 ألف سائح بريطانى في 2018.
كما تتمتع البلدان دومًا بعلاقات ثقافية وتعليمية متميزة اكتسبت دفعة كبيرة مع إنشاء الجامعة البريطانية في القاهرة في سبتمبر 2005، حيث قام بافتتاحها رسميًا الأمير تشارلز، ولى العهد البريطانى في مارس 2006.
ورغم استمرار الاحتلال البريطانى لمصر منذ 1882 وحتى عام 1952، يمكن القول إن أول اعتراف بريطانى رسمى باستقلال الدولة المصرية، لم يحدث إلا بعد قيام ثورة 1919 وتحديدًا مع التوقيع على اتفاقية 1922، التى منحت مصر ما يمكن وصفه بالاستقلال المنقوص، وما لبثت مصر أن حصلت على استقلالها الكامل مع توقيع الطرفين على المعاهدة «الأنجلو مصرية» في عام 1936، والتى مهدت للانسحاب التدريجى للقوات البريطانية من مصر كما أقرت قيام تبادل للتمثيل الدبلوماسى بين البلدين وافتتاح سفارة مصرية، ورغم توقيع المعاهدة، إلا أن ملابسات نشوب الحرب العالمية الثانية واستمرارها أدت إلى تزايد - بدلًا من تراجع - النفوذ والتواجد العسكرى البريطانى حتى قيام الثورة عام 1952 ثم التوقيع على اتفاقية الجلاء التى مهدت لانسحاب آخر قوات بريطانية من منطقة قناة السويس في عام 1956.
وشهدت العلاقات بين البلدين توترًا وتراجعًا خلال عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى ثم عادت بقوة منتصف السبعينيات، واستمرت في التطور.
ويمكن أن تكون مصر، قبلة لبريطانيا، التى ستبحث عن أسواق أخري، لتعويض خسارتها للسوق الأوروبية، كما أنها ستسعى لجذب رؤوس أموال من المنطقة العربية إليها، الأمر الذى يتيح فرصًا جيدة أمام مصر وبعض الدول العربية وخاصة المغرب والجزائر وتونس، لكى تحل محل أسواق أوروبا لدى الإنجليز.
والمتوقع بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ضعف الدور البريطانى في المنطقة لأن أغلب أدوار لندن ترتبط بعضويتها في الاتحاد الأوروبي، وخاصة في قضايا فلسطين واليمن وسوريا وغيرها.
وهناك جانب آخر لعملية الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبي، وهو علاقة مصر مع باقى الدول الأوروبية، نظرًا لحجم الشراكة الأوروبية المصرية، الكبيرة والمهمة في الوقت الراهن خاصة مع تنامى العلاقات المصرية مع فرنسا وألمانيا بالأساس، حيث سيكون هناك تأثيرات مباشرة في مجال الاستثمارات ومعدلات التجارة البينية، لكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى دون اتفاق، سيرفع الجمارك على السلع، وسيضاعف تكاليف التجارة، ما يؤدى إلى حالة من التشكك لدى المستثمرين خشية المستقبل، ولذلك فالخروج بلا اتفاق سيكون له تداعيات اقتصادية سلبية على مختلف الأطراف.
وتعتمد بريطانيا على عدد من الدول العربية ومنها مصر في تعزيز تجارتها، بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، حيث يتعين عليها أن تتنافس خارج أوروبا تجاريًا واقتصاديًا، وعليها أن تعيد تقييم سياستها في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وإعادة النظر في القوانين الضريبية واللوائح التنظيمية واتفاقيات التجارة.
وبسبب تعقيدات وتوترات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، انكمش الاقتصاد البريطانى في أوائل 2019، للمرة الأولى منذ عام 2012، وبالتالى يمكن أن يكون لمصر والدول العربية فرص كبيرة للتعامل مع الاتحاد وبريطانيا كل على حدة بعد البريكست، من خلال تعديل الاتفاقيات التجارية مع الاحتفاظ بالمزايا الجمركية مع الطرفين.