تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
هل حقًا نحن نتواصل مع غيرنا من البشر بشكل جيد؟ ألا نشعر في كثير من الأحيان أن جدرانًا سميكة وصلبة تعزلنا عن أقرب الناس إلينا، وتعزلهم عنا. إن تلك الجدران تحول دون وصول أفكارنا ومشاعرنا إلى عقل وقلب من نحب، ومن ثمَّ يسلك - من نتعامل معهم من الناس - فيما يصدر عنهم من أفعال وأقوال، غافلين عما يدور في عقولنا من أفكار، وما يعتمل في صدورنا من مشاعر وأحاسيس. وكثيرًا ما نتساءل: ألا يرون ما نرى؟ ألا يشعرون بما نشعر؟. نطرح هذين السؤالين سواء أكانت المسألة تتعلق بموضوع شخصى أو شأن عام.
الناس مختلفون، نحن هنا لا نتحدث عن الاختلافات القائمة بين الجماعات والكتل الكبيرة من البشر، لكننا نود أن ينصب حديثنا على اختلاف الأفراد؛ اختلافك أنت مع جارك أو زميلك، مع زوجتك أو زميلتك في العمل، لماذا لا تتلاقى أفكاركما؟ لماذا تتصادم آراؤكما في بعض الأحيان؟ لماذا يبدو الأمر وكأن جدارًا يقف حائلًا دون وصول أفكارك إلى عقل الطرف الآخر، رغم وضوح أفكارك، ومتانتها، وبساطتها، ومنطقيتها؟ هذا سؤال يدور في ذهنك ولا تجد له جوابًا. في الوقت عينه يدور في ذهن الطرف الآخر سؤال مماثل: لماذا ترفض أنت قبول أفكاره رغم وضوحها؟!
هكذا تنشأ الجدران العازلة التى تحول دون تلاقى أفكار الناس.
نصادف في حياتنا كثيرًا من الناس، لا يتقبلون آراءنا وأفكارنا، وقد يصل بهم الأمر إلى حد عدم تقبلهم أى شيء يصدر عنا، حتى من قبل أن يفحصوه، ومن قبل أن يمنحوا أنفسهم فرصة فحصه. لماذا هذا الموقف الرافض؟ هل ارتكبنا جرمًا في حقهم؟ هل أسأنا إليهم دون أن ندري؟ هل تجاوزنا حدود اللياقة والأدب معهم أو مع من يحبون، سواء عن قصد أو عن غير قصد؟ على الأرجح لم يحدث شيء من هذا على الإطلاق!! ومع هذا نجد من ينفر منك، وقد يصل الأمر إلى كراهيتك!! الأسباب كثيرة ومتعددة بعضها ظاهر وبعضها خفي:
من المفهوم أن يتعارك الناس حين تتعارض مصالحهم، ولكن من غير المفهوم أن ينفر منك أحد زملائك، وقد يصل به الأمر إلى حد كراهيتك، رغم أنك لا تحمل له كراهية أو ضغينة، وغير منشغل به على الإطلاق، ثم تكشف لك الأيام أنك شغله الشاغل، وأنه يسعى ليل نهار بين الناس لتشويه صورتك، والحط من قدرك، وتلويث سمعتك. لا لذنب اقترفته، ولا لجريمة ارتكبتها في حقه، وكل ما هنالك أنك حققت لنفسك ما عجز هو عن تحقيقه لنفسه. ساءه أن تنجح أنت، ويفشل هو!!.. بدلًا من أن ينافسك منافسة شريفة ويلحق بك، كرّس كل جهده للنيل منك. ولا ينحصر حقده على ما حققته من نجاحات في مجال حياتك الوظيفية، إذ قد يكون متفوقًا عليك في هذا المجال، لكنه قد يغبطك لأمر لا يد لك فيه، كنعمة وهبها الله لك في جسمك، وحُرِمَ هو منها، أو فضل من الله كحب الناس لك ونفورهم منه، وبخاصةٍ إذا جاءك هذا الحب والاهتمام من إنسانة أو زميلة يهيم هو بها حبًا وعشقًا، ولا تعيره التفاتًا!! هذا النوع من البشر تحيط الجدران العازلة بعقله ووجدانه، ومهما حاولت فلن تصل أفكارك ومشاعرك إليه.
وقد ينفر المرء من جاره أو زميله، دون أن يكون جاره أو زميله هذا ارتكب جرمًا، ينفر من جاره أو زميله، وقد يكرهه لمجرد أنه يعتنق ديانة مخالفة. ومهما حاولنا إقناع هذا الشخص النافر إن الدين لله والوطن للجميع، وإنه ينبغى علينا تغليب مفهوم «المواطنة» ولا شأن لنا بديانة هذا أو ذاك فلن نجد آذانًا مصغية، بل سنجد عقولًا تحيط بها جدران صلدة تعزلها عن أية أفكار مخالفة. من الواضح أن الانتماء إلى عقيدة دينية معينة يرجع في الأساس إلى البيئة الثقافية التى ينشأ في ظلها المرء. فإذا وُلِدَ الطفل في أسرة «مسلمة» وتربى وترعرع في هذه الأسرة، فإنه بلا شك سوف ينشأ مدافعًا عن الإسلام ومهاجمًا المسيحية، ولو أن «هذا الطفل ذاته»، لظروف مختلفة، وُلِدَ في كنف أسرة «مسيحية»، فمن المؤكد أنه سوف ينشأ مدافعًا عما كان يهاجمه، ومهاجمًا ما كان يدافع عنه. وللفيلسوف الإنجليزي «فرانسيس بيكون» رأى طريف فيما يتعلق بمسألة اعتناق المرء ديانة معينة دون غيرها، إذ يرى أن هذا الأمر إنما يرجع إلى البيئة الثقافية للإنسان، فيذهب إلى أن المرء لكى يهتدى إلى الدين الصحيح الذى ينبغى عليه اعتناقه، فلا بد من أن يقوم بدراسة متأنية لكل الأديان السماوية والوضعية (غير السماوية) بلغاتها الأصلية، ودراسة كل المذاهب الفكرية والفلسفية، دراسة نزيهة محايدة، ثم يختار الدين الصحيح. ورأى «بيكون» أنه لكى يتحقق ذلك سوف يحتاج المرء إلى أكثر من 300 سنة يقضيها في البحث والدراسة. وبطبيعة الحال فإن قصر الحياة البشرية لا تمكن الإنسان من تحقيق ذلك!! ويرى «بيكون» أننا لسنا في حاجة إلى ذلك، لأن الله أرسل إلى كل إنسان رسولًا، وهذا الرسول يكمن داخل كل منا، ألا وهو قلب الإنسان، إن قلب الإنسان يرشده بيقين لا يتزعزع إلى وجود خالق عظيم لهذا الكون الرائع.
إذا تحدثت مع أحد عن التسامح الدينى على هذا النحو الذى تحدث به «فرانسيس بيكون» سوف تجد عقولًا أشد صلابة من الصخر، لا تقبل منطقًا، ولا تُعْمِل عقلًا، وتردد مقولةً واحدةً، لا تملك غيرها «هذا ما وجدنا عليه آباءنا».
المجتمعات ترقى وتزدهر بالتسامح بصفة عامة، وبالتسامح الدينى بصفة خاصة. و«التسامح الديني» لا يعنى على الإطلاق أن يتخلى المرء عن دينه، أو يكفر بمعتقداته، أو يلحد، فهذا أمر مرفوض، لأن الدين بالغ الأهمية للإنسان. ولكن ما نعنيه بــ «التسامح الديني» هو أن يدرك المرء، أنه إذا كان قد امتلك هو حرية اعتناق دين معين، فليس من حقه أن يفرض على غيره اعتناق الدين ذاته، أو يجبر أصحاب الديانات الأخرى على التخلى عما يعتنقون. عليه أن يعطى لغيره الحرية كما أعطاها لنفسه في اعتناق ما يشاء، أما التشدد والتعصب فهو الذى أدى إلى ما نراه اليوم من مذابح في المنطقة العربية. كل هذه الدماء التى تسيل أنهارًا سببها الجدران العازلة بين عقول البشر.