أحلام الابنة الكبرى للمحامى وشاعر الأجيال على صدقي، قالت لي، والدى عاش مناصرا ومدافعا عن المرأة ليس في عائلته فقط بل حتى بين صديقاتي، وبنات الجيران، ولازمته الشعرية «فاطمة»، التى ليست دالا لأمه فقط، هى مفردة مهداة لكل النساء من مثلن العطاء والتفانى ومعنى الحياة والسعى فيها، وحكت أنه عندما سمع خبر أحد أولياء زميلاتها وقد أوقف ابنته عن الدراسة، ذهب إليه، وحثه، بل وألح عليه لأجل ترك ابنته تواصل تعليمها، فلم تكن قضيته فقط داخل بيته، زينب وخديجة، وأحلام وتماضر، كرائدات، تعليما، وثقافة وأدبا، وعملا ومنجزا مدنيا، بل كانت قضيته المبدأ في الحث على تحرير المرأة الليبية من الجهل والعزلة وربقة التقاليد وهواجسها الضاغطة التى تمنع أن تتقدم بدورها في طريق النهضة والتنمية عقب تحقق الاستقلال والتخلص من المستعمر.
وعن تشجيعه لها لتكون ضمن أول دفعة جامعية كخريخة من كلية العلوم بطرابلس، وليغالب ترددها أخذها بسيارته في أول انتظامها، بكلية العلوم (سيدى المصري) 1963م، وكون المكان بدون مطعم، حيث كان المبنى الأول صغيرا وقديما، ما تطلب أن يعود بها إلى البيت في وقت الغذاء ثم يعيدها لتكمل محاضراتها العملية بعد الظهر يوميا، كُن سبع طالبات كأول دفعة فتيات بالكلية منهن: فاطمة الأسطى، فطومة الغدامسي، وداد العرادي، ووصفت لى ما لمسته فارقا في تعامل والدها المرن المنفتح معها، وبين علاقة طالبات درسن معها بآبائهن، كانت تحكى له عن تفاصيل يومها الدراسي، وعن زملاء، وأساتذة، وعاشت معه سجالات، أشعرتها بما سربه لها من ثقة بالنفس وتحمل المسئولية وقد ولجت الجامعة، نقاشه معها بندية، لأن تصدع مثله بآرائها، وحين سألتها عن أثره في بيته وهو المحامى الشاعر المثقف مع دوره النضالي، أشارت إلى أول ديوان له ما حمل اسمها، وقد أصدره بعنوان «أحلام وثورة» في ذاك الوقت كلمة ثورة، ومع بدايات الستينيات في الملكية مسألة صعبة مناداة بالثورة، كلمات سببت له متاعب كثيرة، بحث فيها الراحل نجم الدين غالب الكيب في كتابه المهم عنه (صدر 1985)، وانتبهت أحلام إلى أن والدها الشاعر المبرز يكتب نثرا، يبثه من روحه موزونا، مع من كان يطلب منه التوقيع على أوتوغراف، كان حريصا في نثر عباراته أيضا في أى مقابلة صحفية ارتجالا نثريا مسهبا. ثم ضحكت وصارحتنى أنه أيضا من كثرة عنايته وحفظه وتلذذه بالمعانى الشعرية قديمها وحديثها، حينما يتجاذبان أطراف الحديث ويفكر في إقناعها أو مدها بحكمة أو طرفة أومعلومة، يعاجلها ببيت أو أكثر مما يحفظ من الشعر العربى لـ: امرؤ القيس. المتنبي، الحمداني، أو يستشهد بعظماء الأدب والشعر والتاريخ، فعنده لكل مقام مقال، خاصة وأنه كان متحدثا بارعا. ذاكرته نشطة ولماحة ولاقطة، وأضافت وقد فعل ذلك مع أحفاده أيضا، حتى وإن اختلفت درجة القبول بذاك الأسلوب المفيد والممتع.
وهنا تدخلت ابنته الصغرى الأديبة منذ مراهقتها «تماضر» والحائزة على جائزة الخاطرة في بلدية طرابلس، لافتة الانتباه ومسترجعة أنه: كان «حكاءً» مُجيدا، للقصص والأساطير التراثية والشعبية، ننام أطفالا على حكاياته التى ينتقى منها مايناسبنا، لعل ذلك ما أخصب مخيلتي، كتبت قصصا وخواطر وما زالت علامات تصحيحه وإرشاده بقلمه على أوراقي، حتى وأنا أتردد في نشرها غلبنى خجلى وربما خوفى أيضا من المواجهة، كثيرا ما حاول أن يجعلنى شجاعة منطلقة بحديثى مع الناس بمرافقته معرفا بى لأصحابه في أمسيات يحضرها، وفيها جانب من شعره أو مداخلته له، كنت أتأمل مقدرته العفوية غير المتكلفة بصداقته لكل الأعمار لكل الأجيال، يقيم علاقة بسهولة مع الناس، وحتى غضبه قليل جدا، ولا يملك في قاموسه كلمات نابية أو حتى مدافعة في مواجهة من يتجرأ عليه، بل يتركه، ويوقف نقاشه، ويدير ظهره فورا، مانعا نفسه من مجاراة ذات السلوك.
قبل أن أغادر بيت عائلة على صدقى عبدالقادر مودعة بناته، بادرتنى أحلام أكتبى عنه جملته كثيرا ما رددها بيننا مؤكدا أن نظل نرددها ونعمل عليها «أنا لو أولد من جديد، ويخيرونى وين تبي (تريد) يكون وطنك نقول ليبيا»، وكنت نشرت نداء ودعوة ولأكثر من مرة على صفحتى بفيس بوك، ليتنا نجعل يوما لعيد الحب، باسم شاعر الحب والوردة الحمراء شاعر ليبيا على صدقى عبدالقادر، كواجب مستحق، ونحن أيضا نحتاج أن نُشيع قيم المحبة والوفاء بيننا.