الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

رائعة محفوظ.. "اللص والكلاب"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حين كنت صبيًا كان والدى، رحمه الله، يحرص يوميًا خلال شهرىّ مارس وأبريل من عام 1960 على متابعة أخبار "السفاح" محمود أمين سليمان في صحف الصباح؛ ذلك اللص الغامض الذى كانت تتحدث الصحف عن نجاحاته المتكررة في الإفلات من كمائن البوليس، وبراعته في التنكر والمراوغة، مما كاد أن يصيب قيادات الشرطة بالجنون، وأوشك أيضًا أن يصيرَ بطلًا في نظر العامة، مثله مثل أدهم الشرقاوى. لقد ظل الحالُ على هذا النحو فترةً ليست بالقصيرة، حتى استيقظ المصريون يومًا على نبأ محاصرة قوات الأمن للسفاح في مكان مهجور، في إحدى مغارات حلوان. هكذا أُسْدِلَ الستار على تلك الحكاية التى حدثت حقيقةً في الواقع. 
التقط المبدعُ نجيب محفوظ الخيطَ من الحادثة الحقيقية، ونسج روايته الرائعة "اللص والكلاب" التى صدرت طبعتها الأولى عام 1961 عن دار مصر للطباعة في 143 صفحة من القطْع المتوسط. لم تكن رواية "اللص والكلاب" رصدًا حرفيًا لما حدث في الواقع، بل هى رؤية الفنان للواقع، إن رؤية الفنان هى نتاج حياته وثقافته ومزاجه، ونوع حساسيته لما يقع حوله من أحداث. 
"سعيد مهران" هو بطلُ روايةِ نجيب محفوظ "اللص والكلاب". إنه زوج غدرتْ به زوجته "نبوية"، وخانته مع ربيب نعمته "عليش"، واتفق الاثنان نبوية وعليش على الوشاية به، فقضى أربع سنوات بالسجن، تزوجت نبوية "تلك المرأة النابتة في طينة نتنة اسمها الخيانة" (نجيب محفوظ، اللص والكلاب، ص 8.) من عليش الذى كان تابعًا لسعيد مهران؛ ومع ذلك غدر بولى نعمته، واشترك مع "نبوية" في خيانته. إن الخيانة كما يقول نجيب محفوظ في صفحة 37 من روايته هى "أسمج رذيلة فوق الأرض". 
كان سعيد مهران متشوقًا لرؤية ابنته "سناء" التى كانت في الثانية من عمرها عندما دخل السجن. إن صورتها لم تغبْ عن باله طوال السنوات الأربع التى قضاها في السجن، كان يتحسب للحظة لقائه بها، ولكن صدمه نفور ابنته منه عند اللقاء، وآلمه ذلك بشدة. 
لعبت المصادفة السيئة في «اللص والكلاب» دورها في مأساة بطل الرواية «سعيد مهران». إنه يحاول أن يقتل أعداءه، فيوفق في القتل ولكن الأعداء يفلتون منه ويصاب الأبرياء بالسوء. وهكذا يقع البطل في سوءِ حظٍ مريرٍ لا مهربَ منه، حتى تحلَ به الكارثة الأخيرة دون أن يشفى روحه ودون أن يخدش الذين صنعوا مأساته من البداية. بل تحل به الكارثة وهو يحمل إحساسًا عميقًا بالذنب؛ لأنه قتل عددًا من الأبرياء، ولعل دور المصادفة هنا هو التأكيد على أن التمرد الفردى الذى يمثله «سعيد مهران» لا فائدة منه، وأن أهداف «سعيد مهران» لا تتحقق إلا بالثورة العامة الشاملة. (رجاء النقاش، في حب نجيب محفوظ، ص 79). 
يضعنا المؤلف وجهًا لوجه مع الموقف الأساسى الذى تدور حوله الرواية كلها. لقد أُفرجَ عن «سعيد مهران» مع المسجونين المفرَج عنهم في عيد الثورة. خرج من السجن وليس في رأسه سوى فكرةٍ واحدةٍ لم يتخلَ عنها طوال الرواية، وهى الانتقام من زوجته الخائنة وتابعه السابق عليش الذى تزوجها واستولى على أمواله، لقد خرج وحيدًا في الحياة ولا هدف له سوى الانتقام من هذين الخائنين، ثم الأمل في أن يعيش هانئًا بابنته (سناء) بعد أن تصبح الخيانة «ذكرى كريهة بائدة». (فؤاد دواره، نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية، ص 55). 
إن رواية «اللص والكلاب» كعمل فنى إنما تبدأ بلحظة أشبه ما تكون بلحظة الميلاد، وهى لحظة خروج الشخصية من السجن «الذى يرمز غالبًا إلى الرحم» وينتهى بلحظة الموت، ويضم ما بين البداية والنهاية رحلة الشخصية وهى تتعرف على الحقائق الأساسية في الحياة على الصعيدين الاجتماعي والميتافيزيقى، ورحلة الشخصية وهى تصارع لإيجاد معنى للحياة من خلال الخلل الذى يتحكم في الكون على الصعيدين الاجتماعي والميتافيزيقي. (د. لطيفة الزيات، الشكل الروائى من «اللص والكلاب» إلى «ميرامار»، نجيب محفوظ إبداع نصف قرن، ص ص 181 – 182).
كانت لـ«اللص والكلاب» روافد جانبية، كما سلكت هذه الرواية تعريجات متنوعة، هى على التوالى رجل الدين «الشيخ على الجنيدى»، ورجل الصحافة «رءوف علوان»، وامرأة الليل أو المومس الفاضلة «نور»، أولئك الذين يلعبون أدوارًا رئيسية على مسرح الأحداث. لقد التمس «سعيد مهران» حلًا لأزمته عند رجل الدين – صديق والده – فلم يظفر إلا بمجموعة من التهويمات الصوفية والعبارات المبهمة. والتمس نفس الحل عند رجل الصحافة – رفيق صباه – فلم يظفر بغير النفور والإعراض وتأليب رجال الأمن عليه. وعندما خذله الشرفاء الكَذَبَة المتاجرون بالقيم والمبادئ أنصفته «نور» الداعرة؛ عندما اتخذ من بيتها وقلبها مأوى له. ومع ذلك فبقدر ما تذوق في رحابها طعم الوفاء، تذوق أيضًا مرارة الأزمة: خانته الزوجة ووفت له البغى!! أى مفارقة يَعُدّها له القدر؟! وعندما اهتز قلبهُ لأول مرةٍ بعاطفةٍ حقيقيةٍ نحو إنسانة؛ وكانت هذه الإنسانة هى «نور»، أدرك أن وجوده قد وصل – في مرحلة صعود لا تتوقف – إلى قمة العبث. إن الكلاب تطارده، وتتربص به، وتسد عليه المسالك. لا فائدة إذن من أن يبوح لها بحبه وعرفانه للجميل، إن حياته كلها قد غدتْ وهى تحمل معنى اللاجدوى؛ وكل الطرق أمام أحلامه قد أصبحت مغلقة. (أنور المعداوى، «اللص والكلاب»، الرجل والقمة، بحوث ودراسات، ص ص 108 – 109). 
إن رواية «اللص والكلاب» ذات مضمون واقعى؛ لم تخلُ من مذاقٍ «وجودى» في بعض الأحيان. إن «سعيد مهران» بكل ميوله النفسية الناقمة لم يكن إلا نمطًا إنسانيًا صنعته ظروف ضاغطة، ظروف اجتماعية حددت خطَ سيره في طريق الحياة؛ إذ نشأ محرومًا من كلِّ الفرص التى تهيئ للفرد كرامة الشعور بأنه إنسان، ثم عرف خيانةَ الزوجة وتنكرَ الابنة وغدرَ الصديق وضياعَ كل وسائل الإنقاذ. في الأغلب الأعم، إنه لو قُدِرَ لكل واحدٍ منا أن تعرض للظروف نفسها التى تعرض لها سعيد مهران، فسوف يتحول قطعًا إما إلى مجرم محترف كالنمط «الواقعى» نفسه الذى يمثله سعيد مهران، أو يقع فريسة لأمراض نفسية وعضوية تنهش فيه نهشًا. 
تتجلى عبقرية نجيب محفوظ في أنه حين سَطَـرَ روايته هذه عام 1961، كأنما كان يؤرخ للصراع الدائر حتى الآن بين اللص والكلاب، إذ تكشف الرواية بجلاء عظيم عن أن لكل عصر لصوصه وكلابه، وأن الصراع بينهما لن ينتهى يومًا إلا إذا سادت العدالة ورحل الظلم.