اعتاد الرئيس السادات في أوائل الثمانينيات أن يقضي صلاة الجمعة صيفًا باستراحة المعمورة بالإسكندرية مع مجموعة من القيادات، يلتقى أعضاء مجلسي الشعب والشورى والقيادات الشبابية، وتولى تنظيم اللقاء إشراف مشترك من كمال الشاذلى أمين التنظيم والدكتور أحمد مرسى، الأستاذ بجامعة القاهرة وأمين الشباب وقتها ولم يدع لهذا اللقاء أى شخصية تنفيذية من الوزراء والمحافظين، وأحيانًا كان يحضر وزير الإعلام منصور حسن، وعندما كنا نسأل الوزير عن أى تصريحات يرد بثقة: اكتبوا ما سمعتموه واشرحوا ما شاهدتموه، فليس لدي وقت لتصريحات جاهزة، هذه أمانة وشهادة للرجل المستنير، لا بد من تسجيلها
أما الدكتور أحمد مرسى متعه الله بالصحة فإننى أعجب لقرار عدم استمراره أمينًا للشباب.. وتم اختيار الدكتور صبحى عبدالحليم، نائب رئيس جامعة القاهرة وقتها، وكان أصدقاؤه يتندرون بالشعر الأبيض الذى يكسو رأسه، ليكون أمينًا للشباب، فكان يرد بخفة وذكاء.. أنا لست أمينًا للشباب، لكنى أمين شئون الشباب، وهكذا كان يخرج من مطب الدعابة الوجيهة.
في هذه اللقاءات يحرص الرئيس السادات على أن يجرى مكاشفة للأوضاع الداخلية والخارجية بكل صراحة ويتسع صدره للمشاغبات وانفعالاتهم وانتقاداتهم على أوسع مدى وفوجئ الحاضرون بأن الشباب يقول للرئيس أنت بطل العبور وصاحب قرار السلام.. كيف تسمح يا سيادة الرئيس للإرهابى مناحم بيجن أن يتعامل معك بأسلوب غير لائق.. مرة يضرب المفاعل العراقى واليوم التالى للقائه معك في شرم الشيخ، وكأنه يقول للعالم إنه أخذ رأيك في هذه الضربة وهو يحرص تمامًا على أن يظهر بأنه هو الذى يملى شروطه.. وأنه يرفض أى شروط مسبقة لأى خطوة نحو تحقيق السلام في قضية العرب الكبرى.. وللأمانة أيضًا فإن هذه الأسئلة لم تعد سلفًا دائمًا، هى تتسم بالتلقائية وليست مجهزة.. لكن كل شاب يعبر عما يدور بنفسه.
ابتسم السادات وأخذ يداعب غليونه الشهير ويعتدل في جلسته.. ورد بكل هدوء وعقلانية بعد أن قام بتلاوة آيات الذكر الحكيم من سورة طه.. قال الرئيس السادات: اسمعوا يا أولادى بسم الله الرحمن الرحيم (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا) صدق الله العظيم.
وبدأ بشرح ما ورد من ذكر من آيات قائلًا.. شوفوا يا أولادى سيدنا موسى عليه السلام نزل بالدعوة اليهودية، وعندما صدر الأمر الإلهى بالتكليف لكى يتوجه إلى فرعون لم يعتبر هذا الأمر الإلهى بداية لتنفيذ التكليف، لكنه قال اشترط في حديث أن يشرح له الله صدره وثانى شرط أن ييسر له أمره وأن يحلل العقدة من لسانه وأن يجعل له وزيرًا من أهله هارون يشدد به أزره وبعد أن قال شروطه لله عز وجل قال كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا.
وقال منفعلًا يا أولادى اقرأوا القرآن قراءة صحيحة عصرية.. الشرط المسبق واضح إنه في صلب العقيدة اليهودية.. فإذا كان سيدنا موسى عليه السلام أبلغ شروطه لرب العباد، فهل تنتظر من الذى اعتنقوا اليهودية ألا يستخدمون الشرط المسبق أساسًا لأى تعامل، حتى ولو كان الأمر الصادر من الله سبحانه وتعالى.. وينصح الشباب قائلًا النظريات الحديثة في علوم مهارات التفاوض لم تصل لصلب ما شرحه القرآن الكريم.. الشرط المسبق هو عقيدة اليهود.. طبعًا هذا البعد من الرؤية لساحة العمل السياسى تختلف تمامًا عن الرؤية السطحية للأمور.. واستطاع السادات أن ينتزع وقتها تصفيقًا حارًا لهذه العقلية التى تقرأ الأحداث بصورة متكاملة تعكس موهبته بالتفاوض مع بيجن وعجز خبراء وزارة الخارجية أن يستوعبوا فكره، بل إنهم تخلوا عن مسئولياتهم وهم في ساحة القتال السياسي.
هذه الرؤية تحتاج لمزيد من التعمق، لأن التحدى الذى تواجهه الأمة العربية ليس فقط كما يقول الخبراء ليس تحدى الحدود.. لكنه صراع وجود.. وفى هذه النقطة أتذكر أيضًا اللقاء الذى دعا إليه السادات في مايو 1972م بجامعة الإسكندرية، حيث كان اليوم السابق يلقى خاطبه السنوى باحتفالات عيد العمال بالاستاد، وفوجئت بمكالمة مشددة من أستاذى محسن محمد «فاكهة الصحافة المصرية» يطلب منى التوجه لتغطية اللقاء وإملائه الخطوط العريضة بأسرع وقت ما أمكن، خاصة ومعروف علاقة الرئيس بجريدة «الأخبار» وبين أستاذنا إحسان عبدالقدوس، رئيس المؤسسة وأستاذنا موسى صبرى رئيس تحريرها، لأن آخر مسئولية تولاها هو نائب الرئيس كان الإشراف السياسى على أخبار اليوم.. وعلمت وقتها أن الحرس الجمهورى وقيادات الأمن لم تعلم نية الرئيس للقاء وبعض الوزراء لم يتمكنوا من الحضور وظل الباقى منهم الدكتور عزيز صدقى والفريق أول محمد صادق واللواء ممدوح سالم والدكتور حسن الشريف والدكتور لطفى دويدار.
وكان القرار لدرجة أن إدارة الجامعة أرسلت أعدادا كبيرة من المشرفين على الأنشطة، لكى يحضروا الاجتماع ويبدو أن وقتها كانت الدعوة غير مشجعة، خاصة أن الطلبة قادوا مظاهرتين ضد السادات.. واستطاع فريق القيادات الطلابية حشد الطلاب وظهر فيهم مصطفى جمال وعاطف الشاطر وأحمد عبدالمنعم وحسن خليل ونادر عبدالغنى ومحمود صالح وكرم كردى وطارق إسماعيل وحسن أباظة من القيادات التاريخية للطلاب الذين يعرفهم السادات بالاسم لكثرة زياراته وإجراء حوارات معهم، فهو ليس غريبا عن المجتمع الجامعي.
بدأ الرئيس السادات اللقاء واثقًا وقال لهم إنه كان يمكن أكون واحدًا من بين أساتذكم، فقد كانت لى في الفصل مناقشة بينى وبين أحد الجالسين وسطكم على المركز الأول.. وأشار إلى أن زميل دراسته هو الدكتور حسن الشريف أول وزير للتأمينات... وقال إننى معكم في مظاهرة الضباب لكن لست معكم بالمرة الثانية، فأنتم تضعون المفاوض في وضع حصار لا يستطيع أن يناور.
في اللقاء قال السادات أنا باعدكم يا ولادى العام القادم أننى سأعيد العرض العسكرى الذى يقام يوم 23 يوليو لكى يعرف الشعب هذا هو جيش مصر.. أى قبل المعركة بثلاثة أشهر.. ولا أعرف مغزى تسريب هذا الخبر الذى نشرته بالفعل صباح اليوم التالي.. وقال السادات كلمة مهمة.. معركتى مع اليهود معركة أجيال.. مش معركة جيل واحد.. أنا ملتزم أمامكم أننى سأخرج اليهود من الأراضى بطريقة مشرفة وكريمة لترفعوا رؤوسكم.. لكن باقى المعركة دا دوركم.
قال السادات إن الحلول السلمية لن تكون بأى ثمن.. وإن هناك خطأ إملائيا في صياغة قرارات دولية كلفتنى احتلال أكثر من خمس سنوات (يقصد تفسيرات القرار 242).
هكذا فإن السادات داخل اللقاءات المغلقة مدرك أبعاد القضية العربية فهو على قناعة بأنه والأمة العربية لا يواجهان فقط احتلالا إسرائيليا والحقوق الفلسطينية لكنه يواجه كما قال.. إننا نواجه خطر «دولة توراتية» هذا هو جوهر القضية وعنوانها.