د. أسامة حمدي
أثار فيلم «الممر» عن حرب الاستنزاف المجيدة الشجون في نفسى فتذكرت مقالًا كتبته منذ عامين وهو من أطول ما كتبت في حياتى ولكنى تمنيت كتابته بعد التحقق من جميع مصادره لأنه يؤرخ لفترة من أروع صفحات تاريخنا المصرى والتى طويناها كأنها لم تكن فجهلها أجيال وأجيال خاصة من أبنائنا لذا أجدنى أعيد نشره وأتمنى أن تصبر على قراءته فهو محاولة منى لاستعادة الذاكرة الممسوحة عمدًا والتذكير بطريق الشرف إلى أكتوبر.
كانت نكسة ١٩٦٧ جرحًا عميقًا للكبرياء المصري. فلقد احتلت سيناء بأكملها وأُغلقت قناة السويس ودُمر الطيران المصرى على الأرض واستشهد الآلاف قبل أن يقاتلوا وشَمَت فينا القريب قبل الغريب. وانكسر خيلاء عبد الناصر وتنحى. فقد كانت طبول المعركة أعلى من قدرتنا على فهم الواقع وإدراك الخديعة التى حاكها الغرب والشرق بإبداع حينما طلبوا بل وهددوا عبدالناصر بعدم القيام بالضربة الأولى حتى لا يخسر تأييد العالم بل ونصحه السوڤيت بالرضوخ لرغبة الأمريكان بتلقى الضربة الأولى التى كانت القاضية والأخيرة. قال البعض إننا لم نكن مستعدين للحرب وصدقناهم وقال آخرون إن قيادات الجيش لم تكن على قدر المسئولية والتدريب وادعى آخرون أننا لم نكن نملك أى خطة للحرب ويقودنا رئيس مغرور أهوج. فمن السهل نعت المهزوم بأى صفة تريدها وسيصدقك الجميع في الحال فالمهزوم لا يملك حتى حق الدفاع والتبرير فالتاريخ يكتبه دائمًا المنتصر ولا داعى عنده من تزيين الانتصار وإضافة هالات من الزهو والثناء على عبقرية المنتصر وبطولاته فلا صوت ولا حق للمهزوم.
ولكن ما لا يعرفه الكثيرون من الجيل الحالى أن السنوات الثلاث التى تلت الهزيمة كانت من أروع ملاحم نضال الشعب المصرى بل أروعها على الإطلاق في العصر الحديث والتى أظهرت بوضوح معدن شعبنا الأصيل الذى لا يبرق ويزداد لمعانًا إلا في وقت الشدائد. كانت هذه الفترة التى عشتها صغيرًا الأتون الذى شكَّل إحساسى الوطنى وإحساس جيلى معى وزرع فينا حب مصر وعشق ترابها وأثبت لنا أنه يمكنك دائمًا الرهان على قدرة الإنسان المصرى في وقت الشدائد ولن تخسر أبدًا مهما بدى الأمل خافتًا.
بدأت هذه الفترة بتمسك الشعب بعد الهزيمة بقائده والتى صورها المغرضون على أنها مسرحية ولكنى رأيت بعينى الملايين في كل شوارع مصر وهى ترفض الهزيمة وتتمسك بزعيمها. تلتها سريعًا خطة لإعادة تماسك الجيش فقد صمم الجميع على شيء واحد وهو ألا يهنأ العدو بسيناء التى اغتصبها استنزافه طالما قرر البقاء على أرضنا مع انتظار الفرصة للانتقام من المعتدى وغسل العار والذى هو من الطبيعة الأصيلة في الشعب المصري.
قبل نهاية يونيو أصدرت القيادات أوامرها بعدم الارتداد للخلف وفضل المقاتل المصرى الموت دفاعًا عن أرضه بدلًا من وصمه بالعار مع تنظيم خطوط الدفاع بما تبقى من جيشه وهو ١٠٠ دبابة و١٥٠ مدفعا وعدة طائرات. وبدأت حرب الألف يوم بمرحلة الصمود والتى رأينا فيها قوات الصاعقة تصد باستماتة مدرعات العدو التى حاولت احتلال مدينة بورفؤاد في ١ يوليو ١٩٦٧ وهى المعركة التى أطلق عليها رأس العش. وفِى نفس الْيَوْم أطلقت المدفعية نيرانها بشراسة على سيناء. تلتها إغارة ما تبقى من طائراتنا على مواقع العدو في سيناء يوم ٤ يوليو. وشملت مرحلة الصمود المعارك الجوية في ١٤ و١٥ يوليو والتى كبدت العدو خسائر فادحة وأعادت بعض الثقة في قدرة قواتنا. ثم معركة المدفعية في ٢٠ سبتمبر التى دمرت الكثير من مدرعات العدو وقتلت ٢٥ وجرحت نحو ٥٠٠. ثم تدمير المدمرة إيلات في ٢١ أكتوبر وهى من أضخم القطع البحرية في أسطول العدو مع خسارة فادحة في الأرواح. كما قام القناصون المهرة باصطياد جنود العدو من أبراج المراقبة. كما أفشلت القوات البرية والبحرية عمليات الانزال في منطقة القناة ودمرت للمعتدى ٨ طائرات و٨ زوارق و٥٤ دبابة ومدرعة وخسائر ضخمة في الأرواح. ورد العدو بالإغارة على الأهداف المدنية والمصانع. واستمرت مرحلة الصمود بتراشق شبه يومى وكمائن غير متوقعة للعدو في الضفة الشرقية وخطف أسرى وأسلحة حتى يونيو ١٩٦٨. لم يصدق العدو ما يراه من هذا الصمود غير المتوقع. وساعدنا العرب بالمال لتعويض خسائرنا العسكرية وتحديثها ففى نهاية ١٩٦٧ استعاد الجيش ٥٠٪ من قدرته قبل الحرب.
تلت مرحلة الصمود مرحلة الدفاع النشط والمواجهة حين قال عبدالناصر إن «ما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة». وكان ٨ سبتمبر ١٩٦٨ يوما تاريخيًا حيث قصفت المدفعية جميع خطوط العدو بدون انقطاع حتى عمق ٢٠ كيلو مترا من الضفة الشرقية فدمرت العديد من مواقع الصواريخ والدشم والمواقع الإدارية التى تشرف على إنشاء خط بارليف. وتكرر القصف المركز يوم ٢٦ أكتوبر والذى دمرت فيه العديد من مواقع الصواريخ كما وقع العديد من الدبابات الهاربة في كمائن قاتلة. لقد بدى واضحًا تفوق المصريين مما حذى بالعدو لتوسيع جبة القتال بقصف مصنع نجح حمادى في جنوب مصر ومحولات السد العالى حتى يثور الشعب على قائده. بدأ الشعب بأكمله في تأمين نفسه من غارات العدو الهوجاء ضد المدنيين وأتذكر ونحن ندهن زجاج نوافذنا باللون الأزرق ونضع أكياس الرمال أمام مداخل بيوتنا ويبنى الكبار حوائط بالطوب الأحمر أمام بوابات العمارات.
كانت المرحلة الثالثة من أعظم وأخطر المراحل وسميت مرحلة الاستنزاف والتحدى والردع وبدأت كما كان محددًا لها في فبراير ١٩٦٩. وكان يوم ٨ مارس يومًا مشهودا حيث قامت ٣٤ كتيبة مدفعية بإمطار العدو بنحو ٤٠ ألف قذيفة دمرت فيها ٣٠ دشمة في خط بارليف و٢٩ دبابة و٢٠ بطارية مدفعية وهى المعركة التى استشهد فيها الفريق عبدالمنعم رياض وبعض القادة. تلتها في ١٣ مارس وما بعدها إسقاط متكرر للصاعقة ليلا خلف خطوط العدو لتدمير عشرات المواقع وأسر العديد من جنود العدو والعودة بهم. وفِى ١٧ أبريل نفذ الجيش عملية أسماها هدير حيث قصفت المدفعية المتفوقة والدبابات بتركيز شديد جميع فتحات المراقبة والدشم على طول خط بارليف وقتل فيها المئات من الجنود المتحصنين داخلها. وكالعادة رد العدو بقصف محولات نجح حمادى للمرة الثانية ومنطقة إدفو وقتل المدنيين. فكان الرد من القوات الخاصة بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعى في ٨ يوليو ١٩٦٩ والتى قتلت في يوم واحد ٣٠ جنديا تلتها غارة مميتة في ١١ يوليو قتلت وجرحت ٤٠ فردًا ودمرت العديد من الدبابات والدشم دون خسائر كبيرة في صفوف جيشنا الباسل. نفذ بعدها طيران العدو العديد من الغارات في محاولات مستميتة لوقف هؤلاء الأبطال دون جدوى فقد دمر جنودنا طريق شرم الشيخ وأغارت القوات الخاصة في ٣٠ نوفمبر على موقع شمال الشط وقتلت وأصابت سبعين وفِى ٦ ديسمبر استعادت القوات نقطة مهمة شرق القناة ووضعت العلم المصرى عليها قبل أن يصدر لها قرار بالعودة. لقد كسر جيشنا الحاجز النفسى تمامًا والذى سببته الهزيمة في يونيو فقبل نهاية العام كان الجيش قد قام بنحو ٢٩٠٠ طلعة جوية من ١١٠ طائرات في مقابل ٣٥٠٠ من ١٣٠ طائرة ودخل في ٢٢ معركة جوية وقام بنحو ٤٤ عملية برية استشهد فيها ١٦ ضابطا و١٥٠ من الجنود في مقابل ١٣٣ قتيلا و٣٢٠ جريحا من قوات العدو. أصبح العدو لا يغمض له طرفة عين وهو لا يعرف من أين يأتيه الموت ليلًا أو نهارًا.
تحولت المعارك الشرسة تحولا خطيرا في ١٩٧٠ حين حصل العدو على طائرات الفانتوم وبدأ بالإغارة على القاهرة وإحداث فرقعات شديدة في سماها لإرهاب الشعب تلاها قصف مصنع أبوزعبل وقتل سبعين عاملًا وقصف مدرسة الأطفال في بحر البقر. فرد جيشنا ردا قاسيًا على هذه المذابح بالعديد من الكمائن من قوات الصاعقة في الضفة الشرقية والتى أسرت العشرات وقنصت وقتلت العديد من الجنود العائدين من إجازاتهم. ثم تحولت المعارك تحولًا جذريًا في ٣٠ يونيو ١٩٧٠ بعد أن اكتمل حائط الصواريخ في زمن قياسى لا يتعدى أربعين يومًا تحت القصف الشديد وببطولة خارقة للمهندسين العسكريين المصريين. وكانت أولى بشائره سقوط ٢٤ طائرة في أسبوع واحد من ٣٠ يونيو إلى ٧ يوليو منها ١٢ طائرة فانتوم وقد سمى بأسبوع تساقط الفانتوم وقبل نهاية شهر يوليو كانت حصيلة قوات الدفاع الجوى وحائط الصواريخ ٥٤ طائرة مما جعل من المستحيل على طيران العدو حتى التفكير في الاقتراب من الشاطئ الغربى للقناة. أصاب العدو الرعب بعد أن شُل ذراعه الجوية تمامًا وبات واضحًا أنه لو خاضت مصر حربًا في ١٩٧٠ فستنتصر دون محالة. سعى العدو بكل قوة لإنهاء المجزرة التى يعيشها على أيدى أبطالنا فتوسطت له أمريكا في إنهاء حرب الاستنزاف ووافقت مصر أخيرًا على مبادرة وزير الخارجية وليم روجرز بعد أنهكت العدو تمامًا ماديًا ونفسيًا. تحركت بعد المبادرة حوائط الصواريخ لتقترب من القناة وتشكل العامل الأول والحاسم في معركة الانتصار في ٧٣ لتمكن جيشنا من بناء المعابر دون أدنى خطر من طيران العدو. حين انتهت حرب الاستنزاف قال العدو إنه خسر أربعين طيارا و٨٢٧ قتيلا من القوات البرية و٣١٤١ ما بين جريح وأسير. وفى المجال الاقتصادى زاد حجم الإنفاق العسكرى بما مقداره ٣٠٠ في المائة.
لقد أثبتت حرب الاستنزاف معدن الشعب المصرى الصلد الذى قد ينجرح مرة ولكن لا يموت أبدًا. كانت حرب الألف يوم مؤشرًا هامًا لقدرتنا على حسم المعركة إن إنطلق نفيرها وكان موت عبدالناصر العامل الوحيد المُؤخِر ليوم الحسم الذى جاء في العاشر من رمضان بعد ثلاث سنوات قضيناها ونحن نعد الأيام ببطء ليوم الثأر. لا أصدق أن خمسين عامًا مرت على حرب ١٩٦٧ التى أظهرت فيما بعدها جوهر الإنسان المصرى الحقيقي. والآن يأتى يوم ٥ يونيو مع ١٠ رمضان ليذكرنا بيوم الانكسار ويوم النصر معا في يوم واحد ولكن لا يذكر لنا ما حدث بينهما والذى أردت هنا أن أذكره. سردت ذلك الحديث المطول لتعرف أجيال الشباب الحالى صفحات مشرقة من البطولة خاضها آباؤهم المصريون بحب لبلدهم وترابها الغالي. فالمصرى إنسان ذو إرادة حديدية ومعدن لا يصدأ أبدًا. أتمنى أن أكون قد نجحت في استعادة بعض الذاكرة التى مسحها الكثيرون عمدًا من تاريخنا العظيم.