لقد كثر الحديث عما يتصف به عالم اليوم من ثورة في مجال الاتصال، ولذلك فسوف نوجز القول في هذا الموضوع، مكتفين بتأكيد أنه لم يعد في إمكان المؤسسات الاجتماعية في أيّة بقعة من العالم، أن تحجب عن أبنائها - بشكل محكم - أيّة معلومات تبثها أجهزة الإعلام المحلية أو الخارجية، بصرف النظر عن موافقتها أو معارضتها لمضمون تلك المعلومات، وتتساوى في ذلك الأسرة والمدرسة، بل والمسجد والكنيسة والدولة أيضاً.
لقد مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه تلك المؤسسات الاجتماعية قادرة على إقناع نفسها بإمكانية إحاطة أبنائها بسياج يحول دون وصول المعلومات - غير المرغوب فيها - إلى آذانهم أو عيونهم، سواء كانت تلك المؤثرات خارجية المصدر أو داخلية، في عالم اليوم، أصبحت المعلومات - سواء كانت نزيهة أم مغرضة، مرغوبة كانت أم مرفوضة، داخلية كانت أم خارجية - متاحة لقطاعات متزايدة من الأفراد من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، وغنيٌّ عن البيان أن الوضع القديم كان مريحاً للمؤسسات الاجتماعية التي كانت تستطيع بجهد أقل أن تلقن أبناءها وتنشئهم وفقاً للنموذج الذي ترتضيه، في ظل صراع يلتزم - إذا ما قام - بالحدود الداخلية ولا يتعداها كثيراً، ولكن الأمر يختلف تماماً في ظل عالم اليوم، حيث أصبح الوقوف عند حدّ تلقين النشء ما نراه طيباً، وتحذيره من مغبة الإنصات أو المشاهدة لما يقدمه "الآخر"، أمراً غير مجدٍ عملياً، فضلاً عن أنه لم يعد مستساغاً قيمياً في ظل عالم ينادي بالانفتاح على الآخرين.
ومن ناحية أخرى، فلم يعد النشء في حاجة لأن يجهد نفسه سعياً إلى سماع أو مشاهدة ما لدى "الآخر"، بل إن ما يبعث به ذلك "الآخر" أصبح يخترق آذانه، ويقتحم مجال رؤيته، بعد أن تهاوت قدرات المؤسسات الاجتماعية التقليدية - وفي مقدمتها الأسرة -على الرقابة والتصفية.
أما بالنسبة للإجابة على السؤال الثاني، فقد يبدو - لأول وهلة - أننا أحرار في اتخاذ ما نراه مناسباً من قرارات في ما يتعلق بتلك المرحلة المبكرة من التنشئة الاجتماعية لأطفالنا، وفي حقيقة الأمر فإن ذلك يتنافى مع عدد من حقائق العلوم الاجتماعية، إن العالم "القديم" الذي شكل مجموعة القيم التي نشأ في ظلّها الآباء والأمهات، يمارس دوراً فعّالاً لا فكاك منه في تحديد اتجاهاتنا نحو تنشئة أطفالنا، إن ذلك العالم "القديم" الذي شكل منظومة قيم الآباء والأمهات يخلق نموذجاً مثالياً - أو لنقل عدداً من النماذج المثالية - لما ينبغي أن تكون عليه تنشئتنا لأطفالنا.
ومن ناحية أخرى، فإن العالم "الواقعي" - المحيط بالقائمين على شؤون تنشئة الأطفال، بما يتضمنه من تغيرات عالمية وإقليمية، سياسية واقتصادية - يمارس دوراً ضاغطاً في فرض عدد من النماذج لما ينبغي أن تكون عليه تنشئتنا لأطفالنا، لقد تخطت ثورة الاتصالات التي نعيشها اليوم حدود تحكم المؤسسات الاجتماعية التقليدية في تشكيل شخصية الجماعة وحدود وأولويات الانتماء، لقد أتاحت تلك الثورة الاتصالية للأفراد إمكانية الانتماء إلى جماعة افتراضية قد تكون خارجة على القانون، حيث يقيم أولئك الأفراد، بل قد تكون إقامة هؤلاء الأفراد في بلدان بعيدة يحملون جنسياتها ولكنهم - بحكم انتمائهم لتلك الجماعة الافتراضية - يندفعون إلى ممارسة العنف الإرهابي في أي مكان في العالم، تضامنا مع تلك الجماعة بصرف النظر عن مكانها الأصلي.
لقد ظهرت بالفعل في عالم اليوم ظاهرة لم تكن معروفة من قبل، وهي إمكانية "التجنيد عن بعد" عبر وسائط الاتصال الإليكترونية الحديثة، بحيث لم يعد مُستغربا أن نجد مقاتلا إرهابيا يحمل الجنسية البلجيكية مثلا، وهاجر من بلاده ليوجّه رصاصه في سيناء إلى صدور جنود مصريين، ولعلّ هذه الظاهرة تستحق تناولا خاصا.