في مثل هذه الأيام من كل عام تهل علينا الذكرى العطرة لأعظم انتصار عسكرى مصرى في العصر الحديث والذى دائما ما يحفزنا على استرجاع بعض الذكريات الخاصة التى تعيد شحن روحنا المعنوية بالدرجة اللازمة لمواجهة تحديات هذا الزمان، فبعد 46 عامًا على حرب السادس من أكتوبر 1973، ما زالت مراكز الدراسات الإستراتيجية، والمعاهد العسكرية، في العالم كله، تدرس هذه الحرب، خصوصًا في جانبها المصري. لقد غيرت تلك الحرب الكثير من المفاهيم والأفكار، وأحدثت تحولات سياسية وإستراتيجية وعسكرية. فقد كانت منطقتنا أشبه بجسد يحتضر، مع رضا القوى العظمى باستمرار «حالة اللاسلم واللاحرب» القائمة آنذاك، في ظل وجود تقديرات تشير إلى أنه لا أمل، عسكريًا، أمام المصريين والسوريين، في هزيمة الجيش الإسرائيلي. والواقع أن القوات المسلحة المصرية، كانت بدأت، فور هزيمة 1967، في إعادة تنظيم، الجيش المصرى وتسليحه، بعدما فقد أكثر من 70 في المائة من أسلحته، ومعداته. وبدأ الجسر الجوي، في نقل أسلحة ومعدات من الاتحاد السوفياتى السابق إلى مصر التى شرعت في إعادة تنظيم قواتها المسلحة.
قامت القوات، تحت القيادة الصارمة للفريق فوزي، ببناء خط الدفاع الرئيسى غرب قناة السويس، الذى استمر العمل فيه لمدة عام، اطمأن، بعدها الرئيس عبدالناصر إلى أن الدفاعات المصرية، بتنظيمها، وتسليحها، قادرة على إدارة معركة دفاعية أمام الجيش الإسرائيلي، إذا حاول اختراق قناة السويس.
وفى هذه الأثناء، كانت القوات المسلحة قد حققت عددًا من الأعمال، التى كان من شأنها رفع الروح المعنوية للمقاتل المصري، التى فقدها، للأسف، بعد هزيمة 1967. ومن أهم تلك الأعمال، معركة «رأس العش»، كما كان للقوات الجوية المصرية دور كبير، في هذه الفترة، عندما قامت بغارة مفاجئة على العدو الإسرائيلي، في عمق سيناء، ما أعطى دفعة جديدة للجيش المصري. ثم جاءت الضربة القاتلة، بتدمير «إيلات»؛ أكبر القطع البحرية الإسرائيلية. وسوف يتوقف تاريخ العمليات البحرية طويلًا أمام إغراق المدمرة «إيلات» بقوارب الصواريخ المصرية الصغيرة الحجم، ما دفع مراكز الدراسات المعنية إلى تحليل هذا العمل العسكرى غير النمطي.
وبعد مرور عام، تقريبًا، من هزيمة 1967، أعطى الفريق محمد فوزي، «التمَام» للرئيس جمال عبدالناصر، بجاهزية الخطة الدفاعية غرب القناة. وعليه، أصدر عبدالناصر أوامره بالتخطيط للعملية الهجومية لاقتحام قناة السويس وتحرير سيناء. في هذه الأثناء، كانت حرب الاستنزاف قد بدأت على ضفاف قناة السويس، بين الجيشين المصرى والإسرائيلي، قام، خلالها، الجيش الإسرائيلى بتنفيذ عدد من الضربات والهجمات في عمق الأراضى المصرية، فهاجم مدن القناة، بورسعيد، والإسماعيلية، والسويس، ما دفع إلى تهجير سكانها. في هذا التوقيت، كانت القوات المصرية بدأت في التدرب على عمليات عبور الموانع المائية، بينما كانت إسرائيل تبنى خط بارليف، على الضفة الشرقية لقناة السويس. ولا شك في أن الجيش المصري، تعلم الكثير خلال حرب الاستنزاف التى استمرت نحو خمس سنوات، قام خلالها ببناء حائط الصواريخ المضاد للطائرات، الذى أصبح، بعد حرب 1973، أحد رموز تطوير الفكر العسكري، في العقائد القتالية. ما أدى إلى توجيه قائد القوات الجوية الإسرائيلية رسالة إلى عناصره يطلب منهم عدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كيلومترًا، مع بدء اقتحام القوات المصرية للقناة. وهو الأمر الذى منح المصريين حرية الحركة لاقتحامها وتدمير خط بارليف وتنفيذ أعمالها القتالية من دون تدخل القوات الجوية الإسرائيلية. ويوضح ذلك مدى تأثير حائط الصواريخ المصري، لجهة شل قدرة طيران العدو على تقديم العون لقواته على الأرض، محطمًا بذلك أسطورة «اليد الطولى» لإسرائيل، وهى سلاحها الجوي، الذى طالما تغنت به بعد نجاح الضربة الجوية الإسرائيلية في عام 1967.
ومع انغماس القوات المصرية في التدريب على عمليات العبور، ظهر الكثير من المشكلات أمام المُخطط المصري، مثل ارتفاع الساتر الترابى على الضفة الشرقية للقناة. إذ كانت مخرجات تطهير قاع قناة السويس يتم تجميعها على الضفة الغربية للقناة، ووصل ارتفاعها إلى نحو 20 مترًا، وكانت إزالة هذا الساتر ضرورية لإحداث فتحات الجسور للعبور. ومن هنا جاءت فكرة المهندس العسكرى المقدم - باقى يوسف زكي، باستخدام المضخَّات المائية، التى كانت تستخدم في بناء السد العالي، في هدم ذلك الساتر الترابي.
تلك لمحات سريعة، لما تمَّ في ميادين القتال. لكن ما لا يقل أهمية، هو ما حدث في مراكز الدراسات الإستراتيجية، وما قام به المحللون العسكريون، بعد انتهاء حرب أكتوبر؛ حيث عكف الجميع على الاستفادة مما قدَّم المصريون، من فكر عسكرى سواء في تطوير أساليب القتال أو إعادة تنظيم القوات أو في حساب التوازنات العسكرية. وكان من أهم الإضافات التى حققتها حرب أكتوبر، لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، مبدأ «النوعية»، فقد كان الاتجاه في مقارنة القوات، قبلها، يعتمد فقط على أعداد الأسلحة والمعدات.
جاءت حرب 73، لتقلب الموازين، تمامًا، خصوصًا أن التقارير العسكرية الدولية كانت تؤكد تفوق إسرائيل، ما أسهم في إقناع الكثير بأن مصر لن تغامر بشن حرب أفرزت عاملًا لم يظهر من قبل في حسابات القوى، وهو الجندى المصري. ذلك الجندى الذى دفع الجنرال آرييل شارون، في معرض حديثه عن حرب أكتوبر 1973، أذاعه التليفزيون البريطاني، عند سؤاله عما يراه مفاجأة حرب أكتوبر، وإذا ما كان يعتبرها توقيت الهجوم في الثانية ظهرًا، أم اختيار موعد الهجوم في «عيد الغفران»، أم أن المفاجأة كانت في الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد؟ وأجاب شارون أن المفاجأة الحقيقية في حرب 1973، كانت «الجندى المصرى الذى وجدته يحارب أمامي. لم يكن هو نفسه الجندى الذى حاربته في 1967، أو حتى عام 1956».
بالفعل، فالجندى المصرى عام 1973، اختلف، وأصبح من حاملى الشهادات العليا وروحه المعنوية مرتفعة وإيمانه بالنصر كان أقوى من الحسابات والتوقعات. واستطرد شارون، ضاربًا مثالًا، لما شهده بنفسه، أثناء قيادته سرية مكونة من 10 دبابات، في اتجاه الإسماعيلية، بهدف الهجوم على منطقة الدفرسوار، وظهر أمامه، فجأة، خمسة «كوماندوز» مصريون (يقصد من قوات الصاعقة)، وهو ما يعني هلاكهم، وفق المقاييس العسكرية، إلا أن هؤلاء الأبطال، تأكدوا من تحطيم سرية الدبابات الإسرائيلية، قبل أن ينالوا شهادتهم. وهى المعركة التى أصيب فيها شارون، وتم نقله، على أثرها، إلى إسرائيل. وأضاف أنه يجب على إسرائيل، في أى حرب قادمة، وضع نوعية هذا الجندى المصرى الجديد في اعتبارها. ويرجع الفضل للمقاتل المصري، وما حقَّقه، في حرب 1973، في أن المعاهد العسكرية، أضافت بندًا جديدًا لحسابات القوى ومقارنة القوات هو حساب «النوعية القتالية»، ويقصد بها الفرد المقاتل.
حفظ الله مصر وشعبها وجيشها