الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

معارك القوت والموت

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم أتعامل في يوم من الأيام مع "محمود"، لكني تماهيت مع هؤلاء الآباء الذين يتجرعون المرارة من أجل توفير لقمة عيش لأبنائهم، هؤلاء المطحونون الذين يبحثون دائما عن عمل إضافي لتوفير ولو جنيه واحد لتعليم ابن أو تجهيز ابنة، هؤلاء الذين تشققت أياديهم وأجسادهم وهم يناطحون الهم فيغلبهم، فيتمسكون بالحياة.

 "محمود" مؤذن مسجد لا يملك من حطام الدنيا سوى راتبه وتلك التسبيحات على أنامله التي يختم بها الصلاة، ليس لديه مؤهلات سوى بقايا من عافية في يديه منحها له الله ليقتات منها، لذا لم يكن لديه حيلة سوى أن يمسك الفأس ويضرب الأرض يقلب العشب بحثا عن رزق.

 لم يخرج يوما من قريته فخط سيره لأربعة عقود معروف من الدار للمسجد للأرض، لم يشغله يوما ارتفاع الدولار أو انخفاضه مع أنه أول من يدفع الفرق من قوته وقوت أبنائه، شاهد عيان على كل الأحداث، لكنه لم ينبس ببنت شفاه، ولم يعترض يوما على إزالته من قائمة المستفيدين من بطاقات التموين، لم يتناول في أي مرض دواءً سوى قرص أسبرين كعادة كل الفقراء الذين يوهمون أنفسهم بالشفاء مع أن الداء يتفاقم، عليل حاصره العوز، وكبر أبناؤه وكبرت معهم الاحتياجات، وراتبه الضئيل بات لا يكفي الغذاء ولا الكساء، أب والآباء لا تقبل لهم أعذار في هذه الأيام، بسيط إلى الحد الذي لا يستطيع معه تكوين قرار، وكرار مسجون هو فيه ضاع مفتاحه ولا جدوى من المعافرة لفتح باب الحياة.

شاب يتوسل لسنوات العمر حتى لا تصل إلى الخمسين قبل تعليم أولاده وزواج بناته، لكن الأيام لا تنصت ولا ترحم تسحب عافيته من بدنه فتضيق فرص النجاة.
أناس يتاجرون بكل شيء حتى حاجات الناس ويربحون وفقراء يمضغون عبارات الحمد مع الفتات.
يا محمود.. يا صاحب الفأس كم يوميتك؟ جنيهين؟ سنعطيك عشرة على أن تحفر لنا هوة في هذا البيت؟ لا يعرف محمود شيئا عن الآثار ولم يهتم بالفراعنة ولا تاريخهم ولا تاريخ صاحب الدار المحتار؟ كل ما يعرفه أنها "مرمة" سيعمل بها لعدة أيام.
علبة الكشري على حافة الحفرة شاهد إثبات على بساطة عقل محمود.. شاهد إثبات على محاولته الهرب من قبضة الفقر والتمسك بأبسط أسباب النجاة، لكن حتى التراب ينحاز للأغنياء يركلونه ويتأففون منه فيلعق أحذيتهم متوسلا بالبقاء واهبا إياهم الحياة، أما الفقراء فيلعقونه.. لكنه يرفضهم ويسوق لهم أسباب الوفاة.

المشهد الأخير في حياة محمود يستحق التأمل.. يستدعي البكاء حتى يجف الدمع في مقلتي العين.. فبعد انهيار البيت وجدوا محمود واقفا في قاع حفرة عميقة في يده فأس.. محمود في قرارة نفسه يدرك أنه نجا.. وأن مشكلاته التي لم يجد لها حلا قد زالت وزال عنه الهم والمرض وألقي عن كاهله أعباء الحياة.
في معارك القوت والموت لا تحاسبوا فقيرا على ما اتخذه سبيلا في القتال للبحث عن حياة.