أثناء انشغالى بكتابة مقال الأسبوع الماضى، جاءنى شعور مفاجئ بأنه قد فارق دنيانا، فتركت ما بين يدى حتى أحاول الاطمئنان عليه، إلى أن تيقنت من صدق شعوري!.. فقد توفى إلى رحمة الله تعالى بالتزامن مع الشعور الذى تملكنى.. أبى الروحى لواء دكتور ممدوح عطية أحد أهم مؤسسى إدارة الحرب الكيميائية بالقوات المسلحة، وأحد أبطال حرب أكتوبر، وكبير معلمى القوات المسلحة، والذى كان أستاذًا بكلية الحرب العليا ومستشارًا بأكاديمية ناصر العسكرية العليا منذ سنوات طويلة.. بدأ حياته في سلاح المشاة قبل أن ينتقل إلى الحرب الكيميائية.. وكان قائدًا لفصيلة مشاة في حرب ١٩٥٦، حيث شارك ببسالة ضد الإنجليز في بورسعيد، وكان ممن لقنوهم دروسًا قاسية، فنال نوط الشجاعة عن تلك الحرب..أما دوره في حرب أكتوبر، فكان من القادة الذين بذلوا كل جهدهم في الإعداد للحرب، وتدريب الجنود وحمايتهم أثناء العبور، وكان لإدارة الحرب الكيميائية الدور المهم في تجهيز ملابس الجنود وخوذهم وقواربهم بمواد مضادة للحريق، حيث كانت إسرائيل قد حصنت خط بارليف بالمواد الحارقة، التى كانوا يدربون الجنود على الوقاية منها.. ولم يتوقف دور اللواء ممدوح كقائد وخبير عسكرى، بل كان له دور تربوي وتعليمي كبير، وكان يشارك في الكثير من المحاضرات والندوات في الجامعات وغيرها، بالإضافة إلى مقالاته وأبحاثه، وكتبه التى أثرت المكتبة العربية، ومن أهمها: «إنهم يقتلون البيئة.. كان بحق أستاذًا للأساتذة ومعلمًا للأجيال، ولا أنسى وصفه من أستاذى الفاضل لواء دكتور أحمد عبدالحليم رحمه الله، بأنه أستاذه الذى علمه أثناء دراسته بكلية الحرب العليا.. لذلك كنت من أصحاب الحظ أننى تتلمذت على يديه، وعرفته عن قرب.. هذا الرجل النقى، ورث الجدية والالتزام وحب العمل وإتقانه من والده المهندس الزراعى، الذى كان رئيسًا لهيئة الإصلاح الزراعى.. وورث النقاء الفطرى والحنان والعطاء بلا حدود من والدته، والتى كان متأثرًا بشقيقها، الشاعر الكبير مصطفى عبدالرحمن الذى كانت كلماته تقطر وطنية ورومانسية، وغنى له عبدالوهاب وعبدالحليم ونجاة وغيرهم.. وكان ديوانه الأول باسم «وطنى».. فشب اللواء ممدوح على أشعاره، وعشق من خلالها تراب الوطن، وحب الفن.. وكان دائمًا يردد كلماته التى يحفظها عن ظهر قلب.. ولا أنسى شرف مشاركتى في «يوم مصر»، أثناء دراستى بزمالة كلية الدفاع الوطنى، حيث كان اللواء ممدوح هو المسئول عن هذا اليوم منذ خمسة عشر عاما، وهو اليوم المخصص بالاحتفال بمصر وتاريخها، وتقديمها للدارسين الوافدين من الدول العربية والأفريقية بالأكاديمية، فكان يهتم بأدق التفاصيل، ويبذل كل ما يستطيعه من جهد ومال حتى يقدم هذا اليوم في أجمل صورة، فيشترى الهدايا للزملاء العرب والأفارقة، ويطلب الكتب من أصدقائه مديرى هيئة الاستعلامات وهيئة الكتاب وغيرها، لتقديمها لهم لاستعراض تاريخ مصر وحضارتها، وكان يحرص بعد نجاح اليوم، على دعوة كل الدارسين المشاركين فيه على الغداء على نفقته الخاصة في دار الحرب الكيميائية، والتى أسسها وأشرف على بناء كل طوبة فيها.. فهو كان محبًا للخير والعطاء من كل الأبواب وخاصة باب «إطعام الطعام».. وخير دليل على طيبته وعطائه اللامحدود، ما رواه عن حرب أكتوبر، حيث كان من القادة الذين شاركوا في استجواب الأسرى، وكان يحرص على حسن معاملتهم، وتقديم الجاتوه والسجائر لهم، بهدف إنسانى في المقام الأول، وكان يرى أن هذه هى أخلاق المصريين.. حتى أن أحد الأسرى قال له: «أنت تشعرنى بأبى حينما كان يعد لنا الكيك في البيت يوم عيد الغفران».. لن أنسى هذا الرجل الذى كان أكثر من أشعرنى بالأبوة الحقيقية منذ وفاة أبى.. واستعدت بوفاته نفس مشاعر الحزن والدموع والإحساس باليتم.. ومنذ مرضه الأخير افتقد صوته المهيب الحاني.. أفتقده ولكن لن أنسى نصائحه ومواقفه ومساندته وتشجيعه وخفة ظله، وإيمانه وشفافيته وروحانيته التى كان يقرأ بها من أمامه دون أن ينطق..وكلماته التى تمتلئ بالحكمة والمحبة.. ولن أنسى مواسته في ضيقى، وفخره بنجاحى، وفرحه لنصرتى.. صاحب القلب النقى والطيبة وخفة الظل.. وصاحب المواقف الحقيقية بأفعاله وليس الكلمات..والذى لم يعرف حتى الرمق الأخير، سوى عشق مصر وترابها ورئيسها الذى كان أحد تلاميذه الأوفياء.. رحم الله أبى الثانى الذى بكيته كما لم أبك أحدًا منذ وفاة والدى، والذى عوضنى عن فراقه في كثير من المواقف.. وأقولها بصدق: «رُب أب لم ينجبك»..لا أجد لتوديعه سوى دعائى ودموعى.. وإذا كان اللقاء الأخير قد عز في الدنيا بسبب مشاغلها ومشكلاتها، فربما يعوضنى الله بلقاء الأرواح، وربما يتشفع دعائى له، ويعذرنى في تقصيرى الذى كان رغمًا عنى.. أعلم أننى كنت أشارك أبناءه في قلبه، والآن أصبح شريكا لأبى في قلبي، وسيظل اسمه لصيقًا به ومعه في دعائي، إلى أن تصعد روحى إلى بارئها.. وسوف أرثيه اليوم بكلمات الإهداء التى أحبها، بعد أن أهديتها له في بحثى لزمالة كلية الدفاع الوطنى: «إلى منحة ربى الصديق الصدوق.. معينى في الشدائد ورد الحقوق.. كأن دماءه تسرى بالعروق.. أخذ بيدى لأستطيع المسير..بعلم وخبرة ونقاء الضمير.. يخفف عنى بعقل شغوف.. ويحمل همى بقلب عطوف»..أبى الروحى الذى أدعو الله أن يتغمده بواسع رحمته وفضله، ويظل بعلمه النافع، وسيرته الطيبة، وأبنائه الذين أنجبهم أو علمهم، حاضرًا دائمًا وأبدًا في دنيانا.
آراء حرة
أبى الروحى.. لواء دكتور ممدوح عطية
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق