لما كان مقتضى الحال يستوجب استدعاء قيم قد أهملها الحاضر ولاحت صفحاته لطيها.. تلك القيم الأصيلة وهذه المبادئ الحقيقية هى التى شكلت النسق الأخلاقى للحضارة الإنسانية التى أشرقت مع شمس الدنيا من مصر كفجر للضمير الإنسانى وتعاقبت حضارات الأمم تتوضأ من ضى هذا الفجر أخلاقًا وقيمًا ومبادئ لتتمسك بإنسانيتها.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراع علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات.. استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا في أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا - دائمًا - كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عامًا من الأخلاق.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدى التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
............................................................
ضم حمص وحلب يثير غيرة أوروبا ورعب السلطان من قوة الجيش المصرى (الحلقة 15)
في منتصف يونيو أتم القائد إبراهيم سيطرة حكومة مصر على دمشق وعين أحمد بك العظم لحين تشكيل المجلس المخصوص والمكون من 22 من أعيان ومشايخ العوائل وسيقوم بدوره إدارة شئون الولاية الرشيدة على دمشق طبقا لتوجيهات العدل والمساواة التى أرسلها لهم إبراهيم باشا، ومن جانبه صدرت أوامر محمد على باشا بتعيين محمد شريف باشا واليًا على دمشق، وأناب ابنه إبراهيم باشا في تعيين ولاة صيدا وبيروت واللاذقية وطرابلس وقد ترك إبراهيم باشا تلك المهمة الإدارية للأمير بشر الشهابى والذى عُين بدوره أبناء عمومته على الولايات الشامية التابعة للحكم المصرى، وأمر إبراهيم باشا والى عكا محمد منيب بتأيد ولاة المدن الشامية من الشهابيين، وتلك إجراءات تمام إحكام السيطرة على ولايات الشام، والتأكد من تحصينها من جراء الفتن التى أرادها السلطان محمود والقنصل الإنجليزي لإضعاف السلطة المصرية في الشام.
وكعادته لم ينتظر إبراهيم باشا طويلًا لاستكمال معاركه وما هى إلا بقية شهر يونيو حتى أتم نهايته التى صرف أيامها في تعيين الولاة ووضع أسس شئون الإدارة، وفى 30 يونيو توجه إلى حمص التى تواترت أنباءها باستعداد باشاواتها العثمانيين لمواجهة الجيش المصرى مع دعم لجيش إبراهيم باشا بما يقارب الستة آلاف مقاتل نظامى أرسلهم محمد على من مصر، وكانت خطة إبراهيم باشا تتجلى في سرعة الانقضاض على جيش الباشاوات وتحقيق عنصر المفاجأة وتنفيذ ما يسمى الآن بالحرب الخاطفة، وذلك لعلمه بعدد جيش الباشاوات الذى وصل إلى 26 ألفًا من العسكر ومن المحتمل زيادته إلى 38 ألفًا إذا تأخر في الهجوم لأن المعلومات كانت تؤكد تحرك جيش السر عسكر حسين باشا من قونية عبر أنطاكية إلى الشام في عدد يقارب 12 ألفًا من عسكر السلطان، ونهض إبراهيم باشا في صحبة حليفه الصدوق بشير الشهابى وابنه الأمير خليل وأمراء وادى التيم ومشايخ نابلس، وعند احتلالهم النبك، توجه الأمير بشير إلى دير عطية تنفيذًا لتعليمات القائد إبراهيم والذى احتل هو أيضًا القصير وخيم معسكراته على نهر العاصى وتوجه بفرسانه إلى بحيرة حمص، وفى تلك الأثناء كان الإفراط في المظهرية والخيلاء من سلوكيات الباشاوات قادة جيش السلطان في حمص فظل القادة الثمانية يتبادلون الهدايا وحفلات الاستقبال ونصب الخيام الضخمة المترفة.
والآن وقد انقضى أسبوعًا كاملًا من خروج الجيش المصرى من دمشق متوجهًا لمعركة حمص بهدف استكمال ضم ولايات الشام كاملة لمصر، وفى صباح الثامن من يوليو انقض الجيش المصرى على جيش السلطنة من عسكر الباشاوات ومزق شملهم واغتنم عتادهم وأسلحتهم ووكالاتهم - المؤن والذخيرة - وقتل منهم 2500، وأسر 2000 من عساكرهم تم إرسالهم إلى عكا وبعد توضيح حقائق الأمور واستبيان ضعف ووهن الدولة العثمانية وفساد عقيدتهم تم تخيير الأسرى ما بين الانضمام إلى المعسكر المصرى في بلدة النحيلة، أو العودة مجردين دون سلاح لبلادهم.
ويأتى الدور على قادة جيش الباشاوات الذين فروا أمام الجيش المصرى وهم محمد باشا والى حلب وقائد الجيوش العثمانية هناك، وعثمان باشا والى قيسارية، وعلى باشا والى دمشق، وعثمان باشا والى طرابلس، ومحمد باشا فريق عسكر الجهادية، ونجيب باشا، ودولار باشا، ومحمد باشا الكريدلى، وأصر القائد إبراهيم من مواصلة الزحف إلى حماة ومطاردة القادة الأتراك الفارين، وأثناء مطاردتهم تلقى الخبر من عرب عنزة بأن القادة الأتراك ارتعبوا ولم يتوقفوا بحماة وتركوا وراءهم مدافع الجيش التركى غنيمة للمصريين والتى أرسلها القائد إبراهيم للإصلاح في طوبجية عكا، وفر القادة الأتراك في حماية 1500 من عسكر السلطان دون مدافع تحميهم، وكان القائد إبراهيم من خلفهم قاصدًا أسرهم، ولكن سكان قرية زينان جاءوه بستة من الأسرى الذين أخبروه بطلب الباشاوات ومعهم حسين باشا السر عسكر من محكمة حلب إصدار حكم بتقديم المؤن للفارين من جيش السلطان العثمانى، إلا أن الأهالى رفضوا تقديم أى عون أو مؤن للعسكر وقاداتهم المنسحبين أمام الجيش المصرى، وترك الباشاوات حماة وتركوا ما تبقى من مدافعهم الستة عشر ورائهم كآخر غنائم إضافة إلى الذخيرة والخيام والمهمات، واستمر القائد إبراهيم في مطاردتهم بصحبة الاى الفرسان بقيادة عباس باشا وعند وصول الجيش المصرى إلى حلب استقبله أهالى حلب بالترحاب، وعلى رأسهم الشيوخ والأعيان، وقبل أن يدخل القائد بجيشه المنتصر بوابة حلب آخر إمارات الشام أرسل لوالى مصر محمد على كتاب يقول: «ها قد فتحنا الشام التى يقول عنها المصريون إنها جنة، فماذا يريدون منا فوق ذلك؟».
كان ذلك في منتصف شهر يوليو أى بعد أسبوعين من خروجه من دمشق، وبدأ في تنظيم شئون الحكم في حمص وحلب والاستعداد لآخر معارك الجيش المصرى في الشام وطرد فلول العسكر العثمانيين، وهذا ما سنوالى ذكره في القادم إن شاء الله.
------------------------------------------------
كوتيشن
قادة عسكر السلطان محمود العثمانى يتمادون في مظاهر الترف حتى يستسلم عساكرهم أسرى في قبضة جنود الجيش المصرى ويفر الباشاوات هاربين من شراسة المقاتل المصرى ويستقبل أهالى حلب وحمص الجنود المصريين بأكاليل الغار.