يقول الراحل محمد مرسي رئيس الجمهورية الذى يحتفي به إخوانا: «عندما قرأت للأستاذ سيد قطب بعد وفاته، عشت في كتاباته فصارت جزءًا مني. وجدت فيه الإسلام بما فيه من السعة والرؤية الشاملة». هكذا تحدث الرئيس الأسبق محمد مرسى قبل انتفاضة ٢٠١١، في حديث إخوانى معتاد يستهدف غسل سمعة سيد قطب وتقديمه كمعتدل مظلوم مبرأ من كل تطرف، شوهه الأشرار الكارهون له وللإسلام.
من هؤلاء مرشدهم حسن الهضيبى الذى رد على أفكار قطب في كتابه «دعاة لا قضاة»، ومنهم يوسف القرضاوي، الذى يقول إن أفكاره: «ليست من أفكار الإخوان، وخرجت عن منهج أهل السنة والجماعة».
ولعل فريد عبدالخالق، عضو تأسيسية الإخوان كان الأكثر وضوحًا، حين كتب في «الإخوان المسلمين في ميزان الحق»: «نشأة فكرة التكفير بدأت بين بعض الشباب الإخوان في سجن القناطر، وهم تأثروا بفكر سيد قطب، وأخذوا منه أن المجتمع في جاهلية».
الدفاع لم ينحصر على الإخوان؛ فالسلفيون بدورهم يدافعون عن قطب دفاعًا شرسًا. حتى الشيخ “أبوإسحاق الحويني” المعروف بالشدة ضد كل من يخالفه، يحنو – على غير العادة – على سيد قطب، ويصفه بـ “الشيخ”، ملتمسًا له الأعذار، وهو نفس موقف محمد حسان الذى قال: “وأنا أشهد الله أنى أحب هذا الرجل في الله”.
الدفاع عن سيد قطب والترويج لأفكاره لم يفت شيوخ الأزهر ودعاة الوسطية المزعومة من أمثال الشيخ محمد متولى الشعراوي، الذى قال: “رحم الله صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب، فقد استطاع أن يستخلص مبادئ إيمانية وعقائدية، لو أن المسلمين في جميع بقاع الأرض جعلوها نصب أعينهم، لما كان لأى دولة من دول الكفر غلبة عليهم”!
وكان سيد قطب – وما زال – الأب الروحي لكافة الجماعات الإرهابية في العالم؛ فهو الوحيد تقريبًا الذى أجمعت عليه كل التنظيمات على اختلاف صورها.
زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهرى – مثلًا – قال في ديسمبر ٢٠٠١: سيد قطب هو الذى وضع دستور الجهاديين.
نحن هنا أمام رجل ملهم لكافة التنظيمات الإرهابية.
ولد سيد قطب في إحدى قرى أسيوط ١٩٠٦؛ نفس عام ميلاد حسن البنا.
تخرج من دار العلوم ١٩٣٣، وعمل بوزارة المعارف حتى استقالته ١٩٥٢، وصار مدرسًا ومصححًا وصحفيًا وشاعرًا وأديبًا.
اتصل بنجوم الأدب والفكر والثقافة والسياسة، وانضم للمحفل الماسوني!، وكتب في جريدة التاج المصرى مقالًا بعنوان “لماذا صرت ماسونيًا؟!”، وكان من أوائل من كتبوا عن نجيب محفوظ في بدايته، ومن أشد أنصار ثورة يوليو ١٩٥٢، ومن أشد المنقلبين عليها بعد انضمامه للإخوان، وسعيه لاغتيال جمال عبدالناصر شخصيًا.
حياته كانت سلسلة من التحول بين المتناقضات؛ في شبابه قدم نفسه كشاعر، وأصدر ديوانًا، أعلن بعده عن ١٠ دواوين لم تصدر بعد فشل ديوانه الأول.
ثم قدم نفسه كناقد أدبي، وأعلن عن ١٨ كتابًا نقديًا لم يصدر منها سوى كتابين.
ثم هرب إلى السياسة، فانضم في العشرينيات إلى حزب الوفد، ثم انضم للحزب السعدي، وسرعان ما خرج منه أيضًا، قبل أن يعلن كفره بالأحزاب جميعًا ١٩٤٥.
حتى انحياز سيد قطب الشديد لمدرسة العقاد الأدبية وهجومه الشديد على كل خصومه، سرعان ما انقلب لهجوم أشد على العقاد نفسه؛ حين رفض العقاد كتابة مقدمة كتابه!
الأمر نفسه مع طه حسين الذى هاجمه قطب ووصفه بتلميذ المستشرقين الكاره للإسلام، بعدما كان مفتتنًا به لدرجة كتابة روايته “طفل من القرية” على طريقة “الأيام”، وفى مقدمتها رسالة: “إنها يا سيدى أيام كأيامك”!
وذهب للكتابة في مجلات غير رسمية وغير حزبية، مثل “الدعوة” و”الاشتراكية” و”اللواء الجديد”، داعيًا إلى العدالة الاجتماعية، ومهاجمًا النظام والأحزاب وكبار الملاك ومجلس الوزراء والملك فاروق شخصيًا، بعدما مدحه سابقًا في قصائد شعرية عامى ١٩٣٨ و١٩٤٧.
كان طبيعيًا أن ينخرط سيد قطب إذن في التأييد المطلق لحركة ضباط يوليو ١٩٥٢، حيث وجد في قيادتها من يشاركونه نفس المواقف تقريبًا، فتحمس للحركة – في البداية – أكثر من ضباطها!
وصفهم في “الرسالة” ١١ أغسطس ١٩٥٢، بـ: “مُثل نادرة في تاريخ البشرية كلها.. لم تقع إلا في مطالع النبوات“، ورفض عودتهم للثكنات، فكتب معاتبًا اللواء محمد نجيب:
يا سيدى بدلًا من أن تسيروا في هذا الطريق حتى النهاية.. آثرتم أن تنسحبوا إلى الثكنات وأن تتركوا الميدان لرجال السياسة.. هل حملت رأسك ورؤوس معاونيك الأبطال لكى يجلس السياسيون المحترفون؛ النحاس وهيكل وعبدالهادى ومن إليهم، موقف القضاة من أحزابهم يطهرونها من التلوث؟!
وطالب قطب بإنهاء الحياة السياسية والحزبية في مصر تمامًا، معللًا ذلك بقوله: «لم أعد أرى في حزب من هذه الأحزاب ما يستحق عناء الحماسة له والعمل من أجله». بل وصل الأمر للمطالبة بإلغاء الدستور «الذى سمح بكل ما وقع من الفساد، ولا يستطيع حمايتنا من عودة الفساد إن لم تمضوا أنتم في التطهير الشامل الكامل».
لم يكن قطب يؤمن بفكرة الديمقراطية، وطالب ضباط يوليو – صراحة دون خجل – باستخدام الديكتاتورية، قائلًا: «لقد احتمل هذا الشعب ديكتاتورية طاغية باغية شريرة مريضة خمسة عشر عامًا أو تزيد، أفلا يحتمل ديكتاتورية عادلة نظيفة شريفة ستة أشهر؟!».
وعندما بدأ إضراب عمال مصانع الغزل والنسيج في أغسطس ١٩٥٢، حرض سيد قطب الضباط على إزاحة كل من يقف في طريقهم: «لأن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة كلها تذبل وتموت»! وهو ما حدث بالفعل في المحاكمة العسكرية للعمال المحتجين بكفر الدوار، وكانت النتيجة إعدام مصطفى خميس ومحمد عبدالرحمن البقري.
إذًا، نحن أمام رجل كان على وفاق تام مع نظام جمال عبدالناصر، ومن أكثر المروجين له ولثورة يوليو، لكن الأمور لم تستمر على حالها.
قبل انضمامه للإخوان، كان سيد قطب يحتقر الإخوان، بدرجة وصفهم في مقال «قيادتنا الروحية»، بمجلة الرسالة ٦ يناير ١٩٤٧: بـ«جماعات تدعو دعوات إسلامية، لكنها هزيلة الروح، ناضبة، خامدة، أضعف من أن تنفخ في هذا الجيل الهابط المنحل»، لكنهم باتوا في النهاية أمله الوحيد بعد خسارته لتنظيم يوليو، وحربه ضد جميع الأحزاب السياسية.
والثابت من مراجعة مؤلفات سيد قطب أنها لا تحوي أية إشارة لأفكار حسن البنا إطلاقًا، والمتأمل لحديثه عن انضمامه للإخوان يرى بوضوح بحثه عن زعامة؛ لم يجدها في حزب الوفد فذهب للسعديين. افتقدها فهرع إلى الضباط، خذلوا طموحه فقادته الصدفة إلى زعامة الإخوان!