الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الأخلاق.. والسياسة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«إذا انعقد إجماع البشر على رأي، وخالفه في هذا الرأى فرد واحد، ما كان من حق البشرية إخراس هذا الفرد، بأعظم من حقه في إخراس البشرية إذا تهيأت له القوة التى تمكنه من ذلك».
هكذا صدّر المرحوم الدكتور إمام عبد الفتاح إمام كتابه «الأخلاق.. والسياسة»، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة، عام 2001، والذى يقع في 256 صفحة من القطع المتوسط. وهو كتاب بالغ الأهمية، ولقد حرص المؤلف في مقدمة كتابه على رسم قواعد البناء السياسى السليم، فقال: «إن أول خطوة ينبغى أن نخطوها هى أن نفهم فهمًا سليمًا ماذا يعنى نظام الحكم؟ وكيف يكون البناء قويًا راسخًا لا تزعزعه عواصف أو فتن؟ وهذا البناء السياسى الراسخ هو الذى يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه» (الأخلاق.. والسياسة ص 7).
ويوضح المؤلف الكيفية التى يتحقق بها ذلك، فيقول: «الشعب يحكم نفسه بنفسه» حين يكون هو «السيد (صاحب السلطة)، فلا يُفرض عليه قانون ولا تشريع لم يشارك فيه، بل يقوم هو نفسه بسن القوانين والنظم والقواعد، والتشريعات التى يُطيعها، ويُخضِع لها سلوكه، فيكون بذلك حرًا حرية حقيقية» (ص 8). 
إن الحرية الحقة لا تعنى الفوضى أو الانفلات من القوانين، أو الخروج على القواعد والنظم، كما يظن «الفوضويون»، وإنما تعنى أن أطيع القانون الذى أضعه بنفسى لنفسي، فلا يحدنى في هذه الحالة سوى ذاتي، سوى إرادتى الحرة، فالحرية هى - كما قال كانط بحق - الاستقلال الذاتى للإرادة أن أحدد نفسى بنفسي، فالحرية هى التحديد الذاتى أن أحكم نفسى بنفسي. 
يرى المؤلف أن الخطوة الثانية في تأسيس قواعد بناء النظام السياسى السليم هى رعاية مصالح الناس، وتمكينهم من تنمية ملكاتهم وقدراتهم بحسب ما تسمح به ظروفهم وطاقاتهم على نحو طبيعى لا ضغط فيه، ولا قسر ولا إكراه، بحيث تحل المناقشة والإقناع محل التخويف والإرهاب، وتحل صناديق الانتخابات والاقتراع محل السياط وإطلاق الرصاص (ص 8). 
يؤكد إمام عبد الفتاح، أن مهمة البناء السياسى إعداد المواطن الصالح للعيش في مجتمع سليم، لا إعداد الناس للآخرة، أو تصديرهم إليها، أو إجبارهم على دخول الجنة، فربما كانت تلك مهمة رجال الدين مع الناس فُرادى لا مجتمعين، لأن كل إنسان مسئول عن نفسه «وكل نفس بما كسبت رهينة». (ص ص 8 – 9). إن البناء السياسى الجيد هو الذى يكفل للمواطنين ممارسة حقوقهم الطبيعية التى منحها الله لهم كحق الحياة، وحرية التملك، والمساواة، والتفكير بلا قيود أو عوائق، والتعبير عن الأفكار بشتى السبل المتاحة والممكنة، بحيث لا يجوز على الإطلاق منع الرأى المخالف لما هو سائد (ص 9). 
ويفرق الدكتور إمام عبد الفتاح إمام بين الأخلاق والسياسة، وهو موضوع الكتاب، ويرى أن لكلٍ مجاله، ومعناه، ومغزاه. مجال الأخلاق سلوك الفرد، ومجال السياسة سلوك الجماعة. ومن الأهمية البالغة أن لا نخلط بين هذين المجالين. ولا يعنى ذلك التقليل من أهمية أى منهما، أو إنكار الاتصال والتعاون بينهما (ص 9). ويؤكد مؤلف الكتاب أن كثيرًا من الخلط والدمج وعدم التمييز بين الأخلاق والسياسة قد حدث على مر العصور والأيام، فقد ظل الخلط بينهما قائمًا عند كثير من المفكرين السياسيين، وفى كثير من النظم السياسية، وفى الحضارات القديمة. وعند اليونان، وعند المسلمين، وطوال العصور الوسطى... إلخ. (ص 10).
ولقد كان الاعتقاد السائد هو أن الحاكم - الذى هو رأس الدولة - هو النموذج والقدوة، فإذا كان ذلك الحاكم فاضلًا «استطاع أن يخلق المواطن الفاضل» الذى تتكون منه «المدينة الفاضلة». ومن هنا انصب الاهتمام في معظم الفلسفة السياسية القديمة على تربية «الحاكم الصالح» صاحب الخلق القادر على أن يغرس في الناس القيم ومبادئ الأخلاق (ص 11).
إن كتاب «الأخلاق.. والسياسة» يستهدف توضيح مجالين مهمين، ووضع التمييزات الدقيقة بينهما، بقدر المستطاع، وهما مجالان اعتدنا على الخلط بينهما: مجال «الأخلاق» من ناحية، ومجال «السياسة» من ناحية أخرى، وهو خلط ورثناه من العصور الوسطى عندما كان معظم المفكرين السياسيين يعتقدون أن مهمة الدولة هى العمل على إدخال المواطن جنة الفردوس، عن طريق إقامة المجتمع «الصالح» أو «الفاضل». ومن هنا انصب اهتمام المفكرين المسلمين، وغيرهم، على وضع شروط الحاكم الصالح الجدير بحكم المدينة الفاضلة، ولم يهتموا بوضع أسس «النظام السياسى الجيد». والمؤسف حقًا أن نجد معظم المفكرين المسلمين المعاصرين تشغلهم قضية الصفات الأخلاقية للحاكم والمحكومين أكثر بكثير مما تشغلهم قضية وضع أسس «نظام سياسى جيد». 
إنه إرث العصور الوسطى هو الذى يحكمنا اليوم، إنه إذن منطلق دينى وأخلاقى «الآخرة خير وأبقى» الذى يعطى الأولوية لتحلى الحاكم والمحكوم بالأخلاق القويمة، بغض النظر عن الدعائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى ينبغى توافرها لقيام نظام حكم سياسى جيد، وما نعنيه بالنظام السياسى الجيد هو ذلك النظام الديمقراطى الذى يعتمد على مبدأين رئيسيين وتوأمين، هما (أ) السلطة الشعبية في صنع القرار. (ب) المساواة في الحقوق عند ممارسة تلك السلطة. فهو النظام الذى يعامل جميع الناس بالتساوي، أو كما قال جرمى بنتام: «كل واحد يُعَد واحدًا وليس أكثر من واحد» (ص 38). 
علينا أن ننظر إلى الناس ليس فقط بالتساوي، بل أيضًا ننظر بالتساوى إلى آرائهم، فكلما كانت فرصة التعبير أمام الناس أكبر في توجيه السياسة، ازداد احتمال أن تعبر هذه السياسة عن مصالحهم وطموحاتهم: «فالإسكافى يصنع الحذاء، غير أن من ينتعله هو وحده الذى يعرف أين يضايقه».