الحقيقة أن الحديث عن جمال عبد الناصر يحتاج لمجلدات ضخمة وسنوات من البحث والتنقيب وليس لمجموعة مقالات محدودة المساحة، لذا فإننى سأتوقف عن كتابة هذه السلسلة بعد هذا المقال الذى يعد العاشر، والذى نصل فيه بالسرد إلى قيام ثورة 52، وبهذا نكون قد تحدثنا عن جمال منذ طفولته وحتى اقترابه من سدة الحكم، هذا التاريخ المجهول للكثيرين منا، فدائمًا يكون الحديث عن عبدالناصر الرئيس وقراراته، أما دوره الوطنى وكفاحه ضد الاستعمار وكيفية التحاقه بالكلية الحربية وعمله بالصعيد، ثم مشاركته القتال على الجبهة الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم في حرب فلسطين وتكوينه لتنظيم الضباط الأحرار والمخاطر التى أحاطت به من جراء ذلك، وعمله الذى سعى إليه كمدرس في الكلية الحربية، ثم في كلية أركان حرب وتدريبه للفدائيين الذين يحاربون الإنجليز في مدن القناة؛ فإن كل هذه المحطات المهمة في حياته لم تكن مثار اهتمام أحد، إما عن قصد وإما عن جهل، ومعظم الذين كتبوا عن عبد الناصر بدءوا من 1952 وبعضهم بدأ من الفالوجا في 48، مع أن أفعال الرجل طوال الحقبة الزمنية السابقة على قيام الثورة كانت تنذر بسمات وخصائص شخصيته التى بقيت محفورة في التاريخ شاء من شاء وأبى من أبى، وقد يتعجب القارئ إذا أقررت بأن كاتب هذه السطور ليس ناصريًا ويختلف معه في كثير من سياساته، لكن هذا لا يعنى أننا نقف أمام شخصية وطنية جسورة، مغامرة، تحمل قيمًا نبيلة وأهدافًا سامية، لم يكن ناصر خائنًا ولا منتفعًا ولا لصًا، بل كان يملك حلمًا لهذا الوطن وللأمة العربية كلها، وقد تجلى ذلك منذ كان شابًا صغيرًا يرفض وجود المحتل ثم يخطط لمقاومته بتكوين تنظيم سرى من ضباط الجيش، وظهرت ملامح شخصيته أيضًا حين قرر تحويل العمل السياسى السرى في لحظة ما إلى عمل معلن، وقد كان هذا الأمر بمثابة مغامرة كبرى، لكنه كسب الرهان، تمامًا مثلما كسبه مرة أخرى حين تحدى القصر وزج بمرشح في انتخابات نادى الضباط ضد مرشح الملك، وظل ناصر يكسب الرهان دائما وظن أن حلمه الكبير سيتحقق، لكنه تحطم على عدة صخور متتالية، بدأت بالانفصال عن سوريا ثم حرب اليمن فهزيمة 67 التى كانت قاصمة الظهر، لكن عبد الناصر كان يحاول المقاومة، فالفارس لا يستسلم ولا يسقط عنه سيفه إلا باستشهاده، وقد حدث ذلك فعلًا حين رأى بعينيه الدماء العربية تسيل بيد العرب، فيما عرف بأيلول الأسود، ذلك الأيلول الذى أبى أن ترحل أيامه دون أن يصطحب معه جثمان هذا البطل ليضعه في دفاتر التاريخ عن عمر قصير قضاه في الدنيا، لكن أفعاله ضمنت له البقاء خالدًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. وفى إطار مرحلة ما قبل 52، والتى نسردها في هذه المقالات، فقد توقفنا في المقال السابق عند ذهاب جمال ومعه عبدالحكيم عامر وصلاح سالم وجمال حماد إلى اللواء محمد نجيب رئيس نادى الضباط المنتخب، لاستشارته في قيام الجيش بحركة وطنية ترغم الملك على إجراء بعض الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وذلك استغلالًا لوجود الجيش في الشوارع عقب حريق القاهرة في 26 يناير 52، لكن نجيب خشى عواقب القيام بهذه الحركة، والتى قد تعطى للإنجليز سببًا للعودة من مدن القناة إلى القاهرة، واقتنع ناصر برأى نجيب وتم الاتفاق على الاستمرار في توزيع المنشورات لإحداث تعبئة ثورية للمواطنين حتى يأتى الموعد المتفق عليه سلفًا وهو منتصف 1955، ولكن عبد الناصر عاد واجتمع في اليوم التالى مع اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار بناء على معلومة أتى بها أنور السادات من صديقه يوسف رشاد طبيب الملك، وهى أن فاروق ينوى مخالفة الدستور بعدم دعوة البرلمان للانعقاد في دور انعقاده العادى والمقرر له نوفمبر 52، ذلك أن الملك يفكر جديًا في حل المجلس لأنه يضم أغلبية وفدية، وبعد إقالة حكومة الوفد على أثر حريق القاهرة؛ فإنه من الصعب بل من المستحيل أن تستقيم الحياة السياسية بين أغلبية برلمانية وفدية وبين حكومة ائتلافية، وهنا قرر جمال استغلال هذه الفرصة وحدد موعد حركة الجيش لتكون في نوفمبر عقب حل البرلمان مباشرة، وذلك بدعوى حماية الدستور، وبذا ستضمن الحركة تأييد الشعب الذى كان قد انتخب الوفد بأغلبية ساحقة في آخر انتخابات برلمانية، ولكن الملك عجل بنهايته حين أصدر قرارًا في 16 يوليو بحل مجلس إدارة نادى الضباط، هذا القرار الدكتاتورى الذى يوضح حقيقة فاروق الرافض للديمقراطية ولاختيارات الضباط، ويؤكد فساده وفرضه مجموعة بعينها من المقربين له ليحتلوا كل المناصب في الدولة، وفى 17 يوليو اجتمع الضباط الأحرار برئاسة جمال، وظل الاجتماع منعقدًا لثلاثة أيام متتالية؛ حيث تم الاتفاق على الكل التفاصيل الخاصة بالحركة، وتم تحديد نهاية يوليو أو بداية أغسطس لتنفيذها، فلم يعد الصبر ممكنًا بعدما استغل الملك حادث الحريق وراح يعبث بالقانون والدستور وكل شىء، وها هى مصر قد وصلت إلى درجة الحضيض، فالوزارات تتعاقب بين ليلة وضحاها، والناس يعانون فقرًا وغلاء، والإنجليز بات خروجهم من المستحيلات، والحرس الحديدى يعتقل كل وطنى أراد أن يتكلم، وفى هذا كتب كامل الشناوى مقالًا نشره في جريدة «الأخبار» في أوائل شهر يوليو، وقد أحدث هذا المقال دويًا بين القراء، حيث وصف حال مصر وقتها وراح يسأل أين الرجل؟ أين الحكيم الذى سيخرج بمصباحه لينير لنا هذا الظلام، إن مصر تبحث عن رجل يحمل هذا المصباح، هكذا كتب كامل الشناوى واصفًا الحال الذى كانت عليه مصر، ومؤكدا أن الأمر لن يستقيم إلا بظهور هذا الرجل المخلص لعذابات هذا الشعب، وفى الساعات الأولى من يوم 23 يوليو تحرك ناصر ورفاقه، ليبدأ التاريخ في كتابة سطور جديدة بيد أول مصرى يحكم مصر منذ عهد الفراعنة.
آراء حرة
واحة الخميس.. جمال عبد الناصر- 10
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق