لملمت الدورة السادسة والعشرون، لمهرجان القاهرة الدولي للمهرجان التجريبى والمعاصر، أوراقها ورحلت، بعدما أضاءت سماء القاهرة لمدة تسعة أيام، تعانقت خلالها فنون الأداء فيما يربو على ١٥ دولة شاركت بنحو ٢٢ عرضا في المهرجان، على نيل القاهرة الساحر.
انتهت أحداث المهرجان التجريبي؛ ولم تزل دقاته حاضرة بقوة، بين الوسطين المسرحي والثقافي، بعدما جمعت الدورة الماضية بين دفتيها مشاركات لعروض مميزة وأنشطة غير مسبوقة للولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها ضيف شرف المهرجان، كما ضمت محورا فكريا مهما حول المسرح الأفريقي في وقت يشهد اهتماما متزايدا من دول الشمال بفنون القارة السمراء التى تحمل سمات تأبى الانصهار والانصياع لدعاوى الهيمنة في زمن العولمة، كما استعاد المهرجان إصداراته الورقية التى توقفت منذ آخر دورة عام ٢٠١٠ قبل ثورة يناير، وهو ما يعد مؤشرا على استعادته عافيته بشكل تدريجى بعدما فقدها منذ توقفه إبان ثورة يناير.
أما عن الورش التدريبية التى ينفرد بها المهرجان فحدث ولا حرج، بعدما أصبحت موسما ينتظره مئات الموهوبين كل عام؛ للحصول على ما يشبه الكورس المكثف في فنون المسرح المختلفة، مما يعد تعويضا حقيقيا لما كان يحدث وقت ازدهار الفن المسرحى، والذى كان يعتمد على إرسال البعثات للدراسة بأوروبا وروسيا، فإذا بالمهرجان ينتهج سياسة عكسية باستقدام مجموعة من أمهر المدربين لتقديم مجموعة من المحاضرات تشهد تسابقا كبيرا للحصول عليها، فضلا عن تقديم مجموعة من المحاضرات تتناول تجارب المسرح المهمة سواء لشخصيات عالمية مؤثرة أو استعراض تجارب دولية ناجحة.
وعلى صعيد المحاور الفكرية للمهرجان نجد تصاعد نسبة تمثيل المشاركين الأجانب في الأبحاث على ما يزيد على ٦٠٪ مما يمنح المتخصصين المصريين فرصة لا تعوض للاستفادة القصوى من المتابعة، بعدما تحول بعض المهرجانات إلى مجرد فرصة للحصول على الترقيات لبعض الباحثين وأساتذة الجامعات دون إفادة حقيقية للحضور، كما نجح المهرجان في استقطاب داعمين لوجستيين يقدمون الدعم اللازم للمهرجان في بعض النواحى السابق ذكرها وهو ما يخفف العبء على خزانة الدولة.
لم يأت هذا التنوع والزخم الذى شهده المهرجان من فراغ، إنما اكتسب شكله المؤسسى من شخصية الدكتور سامح مهران، رئيس المهرجان، الذى وعد قبل أربعة أعوام بأن يكتفى برئاسة المهرجان لمدة أربع دورات فقط، يقوم خلالها بوضع شكل مؤسسى للمهرجان لا يعتمد ولا يتأثر بوجود أو غياب رئيس المهرجان، إنما بقدرة فريق العمل الفعلى للمهرجان على الاحتفاظ بكفاءتهم في أداء عملهم بمهارة وإتقان، بداية من اختيار العروض إلى تنظيم الفعاليات، فضلا عن استحداث أنشطة جديدة تمنح دورات المهرجان خصوصية، وهو ما التزم به مهران ليفاجئ الجميع بتنفيذ وعده ورغبته في الانصراف بعد أداء مهمته على أكمل وجه.
وقد تحدثت مع صاحب «حداثة المسرح»، محاولا إثناءه، إلا أنه وكعادته تشبث بقراره في تسليم راية المهرجان؛ مفسحا الطريق أمام جيل جديد له الحق في أن يضع رؤيته وينال فرصته في أن يتبوأ رئاسة المهرجان، ومن هنا رأيت أنه من الوفاء لهذا البروفيسير الذى ضرب بنفسه نموذجا في الوفاء بوعده والتمسك به، أن نحييه على مواقفه المعروف بها منذ كان رئيسا لأكاديمية الفنون وتعرض لحروب شعواء لم تنل منه، إنما زادته صلابة وتمسكا بقناعاته وقراراته.
ما يهمنا في مرحلة ما بعد صاحب «سيميوطيقا المسرح»؛ أن تحرص الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة، على اختيار شخصية على دراية تامة بدولاب عمل المهرجان، يستكمل عمله وفق إستراتيجية من سبقوه، خشية تأثر المهرجان أو حدوث هزة عنيفة به إذا حدث تغيير دراماتيكى غير محسوب، خاصة أنه المهرجان المسرحى الأهم والأكبر الذى يتعامل مع عدد كبير من الفرق الأجنبية والشخصيات المسرحية الدولية، ومن هنا يجب التحسب جيدا في الاختيار.