يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولما كان مقتضى الحال يستوجب استدعاء قيمًا قد أهملها الحاضر ولاحت صفحاته لطيها.. تلك القيم الأصيلة وهذه المبادئ الحقيقية هى التى شكلت النسق الأخلاقى للحضارة الإنسانية التى أشرقت مع شمس الدنيا من «مصر» كفجر للضمير الإنسانى وتعاقبت حضارات الأمم تتوضأ من ضى هذا الفجر أخلاقًا وقيمًا ومبادئ لتتمسك بإنسانيتها.. إن ما نعيشه- مفروضًا علينا- يخالف ما اعتادت عليه الإنسانية، ويُغلب قانون الغاب، عودًا على ما كان قبل التأريخ الإنسانى.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراح علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات.. استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا في أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا- دائمًا- كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عام من الأخلاق.
الواقع- الآن- في عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من إنسانيته.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدى التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
دمشق الخطوة الثانية في فتح الشام (الحلقة 14)
لم يبق القائد إبراهيم سوى بضعة أيام وجهز خلالها جيشه من المصريين للانقضاض على حامية السلطان محمود في دمشق أهم مدن الشام على الإطلاق وإن كانت عكا هى الأحصن والأقوى، وبالفعل كان هذا هو رد محمد على عندما أهدر السلطان محمود دمه بفتوى من المجلس التشريعى بالأستانة، وتم لإبراهيم باشا مراده من تجهيز الجيش وأيضا أمر كلا من تاتمير بشير بإمداده بجيشه وقوامه ما يربو على خمسة آلاف من الفرسان، وأيضا كانت أوامره لعباس باشا بمراقبة جيشه تحركات الجيش التركى من جهة حمص وهى التى ستكون الخطوة الثالثة لاستكمال ضم الشام لمصر، وذلك ليؤمن سير معركته في دمشق مع حامية السلطان العثمانى.
وبالفعل في ليل العاشر من المحرم توجه إبراهيم باشا بجيشه المصرى إلى دمشق، وعلى مدى ثلاثة أيام كاملة كان الجيش المصرى على أبواب دمشق، حيث وصل إلى «القنيطرة» في 14 من محرم ثم إلى بلدة «داريا»، وهنا بدأت رياح الحرب، وإذ به يصدر أوامره لقادته بتنفيذ ما تم التخطيط له والتدريب عليه، فبدأ قادة آليات المشاة والفرسان في اتخاذ تشكيلات الحرب والهجوم، وكان في الجانب الأيسر من ساحة المعركة ما يزيد على 800 فارس من حامية دمشق وعلى الجانب الأيمن جماعة من المشاة، وتوجه إبراهيم باشا على رأس آليات الفرسان وبصحبة أحمد بك أمير اللواء مع الأورطة الرابعة من الآلاى الثامن لمواجهة فرسان الميسرة، وتوجه إلى الميمنة فواجه أحمد أغا على رأس آلاى من الفرسان العرب «بدو سيناء الذين تم ضمهم إلى الجيش المصرى أسوة ببقية أقاليم المحروسة».
ولما دارت رحى المعركة لم يصمد جنود السلطان ساعات أمام الجيش المصرى وفرت فلوله هاربة وتبعهم جند الجيش المصرى من الفرسان وأسروا المئات منهم، وفى تلك الأثناء هرب على باشا والى السلطان على دمشق ومعه الشوربجى وشمدين أغا في صحبة ألف وخمسمائة من الفرسان بعد أن تواروا عن الأنظار في معسكر بمنطقة «المرجة»، وفى بيت أمين الكلار في مكان يدعى «باب توما» تخفى كل من المفتى والنقيب ورشيد أغا والترجمان، وخربوا هم أيضا من المواجهة أمام الجيش المصرى، وتم هروبهم مع فرسانهم وآثر الباقون الاستيلاء على دمشق، وطلب جماعة من الأعيان والتجار ورجال الدين الأمان من القائد إبراهيم باشا الذى سمح لهم بتنفيذ مطلبهم، ومع شروق الشمس من اليوم الخامس عشر من المحرم دخل إبراهيم باشا على رأس الجيش المصرى مدينة دمشق وصاحبه الأمير بشير على رأس خمسة آلاف من جنوده، وكان في استقباله كبار أهالى دمشق ونظم شهاب الدين بيتين في فتح الجيش المصرى لدمشق وضمها إلى مصر:
ولما جل شأن عزيز مصر ودان لعزه الغرب والشرق
دعته الشام شرفنى وأرخ بيمين العز قد ملكت دمشق
إلا أن بعض الدروز والمتاولة افتعلوا الشغب بلبنان والبقاع وحوران بتحريض من القادة الهاربين العثمانيين، وأمر إبراهيم باشا بنزع السلاح منهم، وبتوزيع 13 ألف بندقية على أهالى لبنان لمطاردة المارقين والخونة عملاء الدولة العثمانية!
وفى منتصف شهر صفر أمر إبراهيم باشا بتشكيل مجلس شورى من مشايخ وكبار عائلات دمشق ليرعى مصالح البلاد، وجاء في صدر أوامره للمجلس: فليكن معلومًا أنه عملًا بالحديث القائل «كل راع مسئول عن رعيته»، وجب علينا النظر في أمور الرعية وأحوالها بما فيه الراحة والرفاهية من كل الوجوه، الأمر الذى لا يحصل الا بنشر بساط العدل والإحسان عليهم، وفصل الأحكام فيهم بالحق.
وسنوالى سرد لمحات من معركة حلب وأكاذيب السلطان العثمانى «الخليفة» في المقبل إن شاء الله.
بعد أن صاغ علماء الأزهر ردًا شرعيًا على فتوى المجلس التشريعى العثمانى، قال محمد على لقناصل أوروبا: علماء الأزهر هم أحفظ للدين وأعرف بأحكام القرآن من جميع علماء المسلمين وما أفتوا به إنما هو دفاع عن حرمة الدين من أن تنتهك، أما الرد من جانبى فيحمله ابنى إبراهيم باشا إلى قواد السلطان!