صويب.. راعى غنم يمنى شاب، لم يتجاوز من العمر ثمانية عشر ربيعًا. كان يخرج بأغنامه بعيد الفجر كل يوم لترعى فى مراعى مرتفعات قريبة. يجلس قريبًا منها بصحبة كلبة هادئة تعلمت كيف لا تنبح كثيرًا. لأنها تعلم أن لنباحها قيمة كبيرة تدركها الأغنام كتعليمات ذهبية. تعود الأغنام تحت مظلة الأصيل لبيتها، تنام تحت سقف من قماش خيمة صنعت من شعر ماعزها. لكنها ذات مساء لم تنم. ظل ثغائها يزعج أفراد القبيلة القريبين من بيتها طوال الليل. حاول صويب تهدئة أغنامه بلا فائدة. لاحظ عليها نشاطًا غريبًا لم يخالط أجسادها فى أى مساء سابق. كانت تتحرك وتقفز وتثغو بصوت مرتفع وكأنها استيقظت للتو. عبثًا حاول الجميع أن تصمت الأغنام. لم يستطع أحد أن يقنعها بالتوقف عن الاحتفال المفاجئ الذى أصابها بالأرق والنشاط معًا. قبيل الفجر نامت الأغنام. واستيقظت متأخرًا. ومارست ذات الاحتفال فى المساء التالي، مما دفع صويبًا لمراقبتها فى المرعى. ماذا تأكل هذه الحيوانات كى لا تنام ولا تهدأ؟! أو من يصيبها بشر قد لا يعرفه صويب؟! العجيب أن الأغنام لم تكن تفعل شيئًا سوى أنها كانت تتناول حبوب البن. نعم البن. حصلت هذه الأغنام على امتياز السبق فى أن تصبح أول كائنات تستخدم البن كى تصاب بحالات تنبه مثيرة للجدل. كان صويب قد غير مكان الرعى بعد أن أجدب المرعى القديم، وهى عادة البدو الرحل أن يتنقلوا خلف الكلأ والعشب لترعى حيواناتهم ركضًا خلف ما سمحت به ظلال المطر الشحيح والمياه الجوفية الفقيرة فى الصحراء. فوجدت الأغنام البن.
تراءى لصويب أن يصيب الثراء من حبوب أغنامه بعد أن منعها من الاقتراب من اكتشافها. قطف الحبوب الخضراء الصغيرة، وباعها للباحثين عن النشاط وطرد النعاس، وظل يملك براءة الاختراع واستغلاله حتى انتشرت الأخبار وصار الجميع يستطيع أن يزرع البن ويمضغه، ثم أضافوا له السكر وطحنوهما معًا هربًا من مرارته، ثم غلوه حتى يسهل ابتلاعه دون الإحساس بمرارته، فظهرت للنور القهوة العربية. وطوره آخرون ففى اليمن أنواع من البن لها لون يشبه الشيكولاتة ونكهة أقل مرارة كحبوب بن «المخا» التى يصنع منها نوع من القهوة سمى باسمها «مخا» ونُطق فى أوروربا والأمريكتين «مكا» ثم «موكا» للصعوبة نطق حرف الخاء.
ظهرت القهوة إبان الحرب العالمية الأولى ظهورًا عالميًا، إلا أنها لم تخرج عن المنطقة العربية وبعض دول الشرق الأوسط إلا مع القوات الاستعمارية التى رأتها واختبرتها هناك، والغريب أن تركيا على الرغم من اشتهارها بالقهوة إلا أن الفرنسيين هم من حملوا القهوة إليها. رأى أفراد الإرساليات التبشيرية الفرنسية نباتًا يُغلى ويُشرب فى هضبة بإثيوبيا تُسمى «كييف» وهو مسمى محرف لكلمة «قهوة» العربية. فحملة الفرنسيون لأوروبا ومنها الجزء الأوروبى من تركيا «بدءًا من استنابول» وحرفوه اسمه ليصبح أسهل نطقًا على ألسنتهم ليصبح اسمه «كوفى».
لاقت القهوة، المحتفى بها فى كل مكان حتى الآن، هجومًا غير متوقع. راقب الأتراك من يشربون القهوة، واندهشوا من حالة النشاط التى تصيب من يشربها حتى أنه يعجز عن النوم لفترة، ويستطيع أن يمارس أنشطة ذهنية أكثر، بل ويقل إحساسه بالنباتات المهدئة عادةً للجسم كالنعناع والريحان. ظن بعضهم أن القهوة بذلك تمارس دورًا يشبه الدور الذى تمارسه الخمر لكن بطريقة أداء عكسية، فالخمر يخدر العقل ويهدئ عمله كثيرًا حتى يغيبه، أما القهوة فتوقظه وتمنعه من السكون أو الغياب، لذا رأى البعض أن كل ما يعبث بالعقل يجب تحريمه وفقًا لشريعة الإسلام. حُرمت القهوة لذلك فترة فى تركيا، إلا أن المدة ما بين دخولها لتركيا وتحريمها كانت كافيةً لأن تكسب جمهورًا لم يستطع هجرها بسهولة، ولا طردها من حياته بذات بساطة الصدفة التى دخلت بها البلاد على أيدٍ مسافرين فرنسيين.
اجتمعت مجموعات من كل بلد عرفت القهوة بتركيا فى استانبول ذات مساء فى شقة بوسط المدينة سرًا. اتفقوا على تكوين جماعة للدفاع عن القهوة، كل ما فكروا فيه أن هذا المشروب استطاع أن يغير حياتهم نحو الأفضل، لذا فهو يستحق الأفضل منهم، قرروا أن يخبروا كل من فى بلادهم أن القهوة تعرضت منهم لظلم جسيم، وأن كل شيء جديد يجب أن يختبروه جيدًا قبل أن يحكموا عليه، لذا لن يجيد الحكم عليه أحد أكثر من هؤلاء الأشخاص الذين اعتمدوا عليه فى حياتهم ولم يخذلهم، أخبروا أهل بلادهم أن القهوة لم ترتكب إثمًا ولم تذهب بعقل بل أتت به، ولم تراودهم عن صحتهم بل قوتها، ولم تزعجهم بل قدمت لهم وقتًا سعيدًا ساحرًا يشبهها دون أن تفلسهم أو تخرجهم عن اتزانهم أو حتى من بيوتهم. نشأت عن هذه الجماعة بعد بضعة أعوام نقابة رسمية للمهتمين بالقهوة. وخرجت القهوة من أسرها، لتضطلع هذه النقابة بوظائف أخرى مثل إصدار مجلة دورية للقهوة، والاحتفاظ بوصفات خاصة بأعضائها وورثتهم للقهوة لا يمكن أن تجربها إلا فى مقر النقابة أو حيث يقيم أصحاب الوصفات وورثتها، كما أنها ترعى وتختبر كل تجارب تهجين وطهو القهوة الجديدة، وتجتمع دوريًا لمناقشة أحوال القهوة المختلفة فى الأرض، وتتابع أحوال نقاباتها الفرعية التى امتدت لخارج تركيا.
هى القهوة. خمر العباقرة. مشروب ولد وعاش فى حالة جدل. حتى نشأت له نقابة رسمية تدرأ عنه الجدل. ما زال الكثيرون من المهتمين بشئون القهوة يتساءلون: لمَ لم تنشأ نقابة عربية للقهوة، حيث نشأت وتقدمت للعالم كفتاة ساهرة ساحرة؟!