يظل حريق القاهرة في 26 يناير 52، من أكثر الحوادث غموضًا في تاريخ مصر المعاصر، فلا أحد حتى يومنا هذا يستطيع أن يحدد الفاعل الحقيقى، ورغم أن الحكمة تقول ابحث دائمًا عن المستفيد؛ فإنك ستجد كل المشار إليهم بالاتهام قد خسروا عقب هذا الحريق المدمر عدا الإنجليز الذين خف عليهم الضغط في مدن القناة، ففى اليوم السابق مباشرة للحريق دارت معركة الإسماعيلية؛ حيث طلب الحاكم العسكرى البريطانى من قوات الشرطة هناك تسليم أسلحتها وإخلاء مبنى المحافظة، وذلك على خلفية العمليات الفدائية التى كانت تحدث بصورة شبه يومية ضد الجنود الإنجليز في معسكرات القناة، والتى راح ضحيتها عشرات الإنجليز، وأيضًا على خلفية توقف بعض المتعهدين عن توريد الخضراوات واللحوم لجنود الاحتلال، وذلك كله عقب إلغاء حكومة النحاس اتفاقية 36، وكان جمال آنذاك مدرسًا في كلية أركان حرب، وقد ترقى إلى رتبة البكباشى (المقدم)، وكان ينهى عمله في الثالثة عصرًا ثم يذهب بسيارته الخاصة إلى صحراء دهشور ليقوم بتدريب مجموعة من الفدائيين الذين كانوا يسافرون إلى مدن القناة ويقاتلون الإنجليز هناك، وكان جمال يضع خططًا بنفسه للفدائيين، كما استطاع بمساعدة بعض الضباط الأحرار من الحصول على أسلحة من مخازن الجيش على شكل استعارة مؤقتة؛ حيث يقوم الفدائى بتنفيذ عملية عسكرية بها ثم يعيدها مرة أخرى، ولا شك أن قيادات الجيش كانت تساعده في هذا بغض بصرهم وبالصمت وعدم التفتيش على مخازن السلاح بشكل دورى، فالجيش يريد الثأر لكرامته المجروحة في 48، وهو أيضا يقف إلى جانب الحركة الوطنية التى أفاقت من غفوتها وبدأت في مواجهة الاحتلال بعد سنوات طويلة من السكون وانتظار الحلول الدبلوماسية التى لا تجدى، وقد تأكد للجميع أن الإنجليز لن يرحلوا عن مصر إلا بالقوة السلاح، وحين طلب الحاكم العسكرى البريطانى «إسكهام» من جنود الشرطة إخلاء مبنى المحافظة، وقسم الشرطة وتسليم السلاح، رفضت قوات الشرطة هذا الأمر، فقامت القوات البريطانية بمحاصرة قسم شرطة الإسماعيلية ومبنى المحافظة، وأنذرت كل من فيه بالتسليم وإلا سيتم تصفيتهم، وجاء قرار وزير الداخلية فؤاد سراج الدين لضباطه وجنوده بالصمود والقتال وعدم التسليم، وبالفعل بدأت المعركة بين سبعة آلاف جندى بريطانى تدعمهم أسلحة حديثة ودبابات وعربات مصفحة، وبين ما يقرب من سبعمائة ضابط وجندى شرطة، لا يحملون إلا البنادق الخفيفة، واستخدم البريطانيون كل ما لديهم من أسلحة في قصف مبنى المحافظة وقسم البوليس، بينما أظهر رجال الشرطة المصرية شجاعة وبسالة منقطعة النظير، فقرر الإنجليز تحويل المعركة إلى مذبحة وحشية، انتهت باستشهاد ما يزيد على خمسين ضابطًا وجنديًا وإصابة العشرات، وأمر الحاكم العسكرى البريطانى جنوده بتدمير بعض قرى الإسماعيلية التى يظن أن الفدائيين يختبئون بها، هذا ما حدث في 25 يناير 52، والذى نحتفل به كل عام كعيد للشرطة المصرية التى اتخذت موقفًا وطنيًا ضد المستعمر، وسيظل 25 يناير هو عيد الشرطة ما بقيت هذه الأمة، وفى اليوم التالى لهذه المذبحة كان من الطبيعى أن يغضب الشعب المصرى لقتلاه، فأعلن موظفو المطار الإضراب عن العمل وعدم استقبالهم للخطوط البريطانية، وأعلن الطلاب في الجامعة عن تنظيم مظاهرة ضخمة تتوجه إلى السفارة البريطانية وإلى مقر قيادة قوات الاحتلال بقصر النيل، ولكن قبل أن يحدث كل هذا، استيقظ الشعب على الحريق المدمر للقاهرة، وعلى الفوضى وعمليات السلب والنهب التى تمت لكبرى المتاجر والبنوك، كان الأمر أقرب ما يكون بما حدث في 28 يناير 2011، وطلب فؤاد سراج الدين من الملك أن يتدخل الجيش، فقوات الشرطة غير قادرة على السيطرة وضبط الأمن، وبالفعل نزل الجيش إلى الشوارع، وأعلنت الأحكام العرفية وعدم التجول بعد السادسة، وفى صباح 27 يناير أقال الملك وزارة الوفد، وكلف على ماهر بتشكيل وزارة جديدة، ولم يكن جمال سعيدًا بما حدث، فقد انتابه الخوف أن يستغل الملك فرض الأحكام العرفية وأن يأمر باعتقال أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، الذين وقفوا ضد إرادته وأسقطوا مرشحه حسين سرى عامر في انتخابات نادى الضباط، فطلب جمال من أعضاء التنظيم عدم الاجتماع في هذه الظروف، وقام بإخفاء أوراق التنظيم، واختار زكريا محيى الدين ليخلفه في إدارة التنظيم حال القبض عليه، ولكن جمال فوجئ برأى داخل التنظيم يكمن في ضرورة استغلال فرصة وجود الجيش في شوارع القاهرة، وذلك للقيام بالحركة التى كان قد تم الاتفاق على أن تحدث في سنة 55، وقرر جمال أن يذهب للواء محمد نجيب رئيس نادى الضباط المنتخب، وأن يعرض عليه الرأى، وقد حضر هذا اللقاء عبدالحكيم عامر وصلاح سالم وجمال حماد، وفيه حذر نجيب من عواقب القيام بأى تحرك لأن الإنجليز سيستغلون الفرصة حتمًا، وستعود قواتهم من مدن القناة لتنتشر في سائر أنحاء مصر، ووافق جمال والضباط الأحرار على رأى نجيب، ومرت البلاد بأسوأ حالة سياسية على الإطلاق، فالوزارات كانت تتعاقب بسرعة غريبة، فبعد أيام من تولى على ماهر الوزارة قدم استقالته ليخلفه نجيب الهلالى، ثم جاء حسين سرى باشا المعروف بدكتاتوريته، ثم عودة لنجيب الهلالى مرة أخرى.. كل هذا في غضون أربعة أشهر، ثم أصدر الملك قراره بحل نادى الضباط ليكون بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير.. وللحديث بقية..
آراء حرة
واحــــة الخميس.. جمال عبد الناصر – 9
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق