أسكن على بعد ناصية من سوق باب اللوق التاريخى بوسط البلد.. أتابع الجدران والزخارف والسقف العالى وألمس التاريخ الذى يتم دفنه بفعل مقصود.. السوق التي تبلغ مساحتها ٦٢٠٠ متر مربع والذى تطل بوابتها الرئيسية على ميدان باب اللوق لا يمكن التعامل معها بكل هذه القسوة فهو قطعة من التاريخ والحضارة.. السوق بطوابقها الثلاثة يزيد عمرها الآن على مائة عام حيث تم افتتاحها في عام ١٩١٢ كنسخة باريسية المذاق وما زالت اللافتة المكتوبة على واجهتها باللغتين العربية والفرنسية تشهد على جريمة الإهمال التى عانت منها السوق حتى صارت الآن بؤرة للتلوث.
كنت خارج مصر قبل أسابيع وفى مدينة دا نانج الفيتنامية زرت سوقا قريبة الشبه من سوقنا باب اللوق وإن كانت مساحة السوق الفيتنامية لا تتجاوز ربع مساحة سوقنا والمفارقة العجيبة هى أن السوق الفيتنامية صغيرة المساحة عالية القيمة صارت مقصدا للزوار والسياح.. نهر متدفق من الدولارات يصب في السوق الصغيرة لما تحتويه من نظام ونظافة وبضائع متنوعة سواء كانت ملابس أو منتجات جلدية أو تذكارات فيتنامية أو ساحة للمأكولات.. عالم كامل من الاقتصاد السياحى المنتج يدور في مساحة قدرتها بربع مساحة سوق باب اللوق وتحسرت على حالنا وأحوالنا.. كيف نمتلك في مصر هذا الموقع في وسط البلد والقريب جدا من ميدان التحرير والمتحف المصرى ولا نتعامل معه بالجدية التى تليق باسم مصر الفرعوني.
سوق باب اللوق أسسها رجل الأعمال المصرى الجنسية يهودى الديانة اسمه يوسف أصلان قطاوى وجاء له بمهندسين أجانب للتصميم والتنفيذ وحرص كل الحرص على ضبط البوابات بشكل زخرفى وسقف على هيئة جمالون حديدي مرتفع بشكل لافت لضمان التهوية الجيدة والإضاءة الطبيعية.. قطاوى جاء بفكرة السوق بعد زيارته لأوروبا ومشاهدته أسواقا مشابهة فاتخذ القرار ونفذ المشروع لاقتناعه بأن مصر تستحق منافسة أوروبا في الجمال. لم يعرف وقتها أن دوامة الإهمال سوف تبتلع هذا الكنز ليسكن السوق الآن الفئران وطفح المجارى وباعة في حاجة لمراجعة مساحات حدود تراخيصهم إذا وجدت.
ولعل المتابع قد رأى في السنوات الأخيرة بعض أعمال الصيانة في الواجهات الخارجية لعمارات وسط البلد.. وكان الأمل أن تمتد يد الصيانة والتطوير لذلك المرفق الفريد من نوعه وأقصد هنا سوق باب اللوق.. التطوير والصيانة هنا لا نقصد بهما طلاء واجهة أو تسليك بالوعة.. ولكن المنطق يقول ارجعوا إلى التصميم الأصلى للسوق وهو محفوظ لديكم في الأرشيف العتيق.. ارجعوا إلى التصميم الأصلى وأعلنوا لنا أن مزارا سياحيا جديدا سوف يضاف لخارطة السائح بمنطقة وسط البلد. تعالوا بالشباب المصرى المدرب على التعامل مع السائحين وامنحوهم الفرصة في سوق لبيع التذكارات الفرعونية.. قولوا للباعة المتواجدين حاليا بالسوق لا ضرر ولا ضرار طالما التزمتم بمساحة المحل المرخص لكم ودون إشغال الممرات ودون فهلوة على ضيوف السوق. ومن سيخالف منهم قواعد النظافة العامة يتم إلغاء ترخيصه.
أقول وأكرر سوق باب اللوق قطعة من الذهب مدفونة في وحل الإهمال والفساد والتخلف وانعدام الإرادة وغياب الرؤية.. أنقذوا السوق قبل فوات الأوان وأعتقد أن المسئول الذى سيتبنى هذا المقترح سوف يدخل التاريخ من أوسع أبوابه باعتباره المؤسس الثانى لهذا الأثر.
تطوير السوق سوف ينعكس على محيطه التجارى والترفيهى المحيط به.. فهل يعلم المسئولون أن سينما صيفية مبهرة مجاورة لسنترال باب اللوق ومواجهة للسوق قد أغلقت أبوابها من سنوات وصارت خرابة.. صحيح السينما لها مالك خاص وورثة ولكن لو كنت في مكان متخذ القرار لاشتريتها باسم وزارة الثقافة وطورتها على وضعها القديم وقدمت للمجتمع رسالة حضارية تقتلع الإرهاب من منبعه. هذه حقيقة مؤكدة كلما أغلقت سينما كسب المجتمع إرهابيا.. كلما أهملت سوقا كسب المجتمع عشوائية.. والعشوائية هى الحاضنة الأم للإرهاب وغيره.
أى أموال يتم استثمارها في ذلك المربع الخصيب هى في مكانها.. فمتى نقرأ خبرا عن قرار صدر من الحكومة يتبنى ما تحلم به وسط البلد؟.