• يطرح المفكر والناقدالسورى الكبير جورج طرابيشى في كتابه هرطقات - الجزء الأول - أحد أهم إشكاليات التحول الديمقراطى ويسأل: هل الديمقراطية ثمرة يانعة ناضجة برسم القطف؟ أم هى مجرد بذرة صغيرة برسم الزرع والغرس؟
• أصحاب الرؤى الخلاصية. يظنونها ثمرة ناضجة برسم القطف وجاهزه!!
• أما أصحاب الرؤى العقلانية فيدركون أنها بذرة صغيرة برسم الزرع والغرس.
• وبهذا المعنى فهى تحتاج حتى تنمو وتكبر وتنضج إلى جهد وعمل ورعاية.
إلى شغل في النفس وفى تربية المجتمع وفى ثقافته وقيمه.
• وقد تحتاج إلى مجهود مضاعف وعناية خاصة إذا أنت حاولت زرعها وغرسها في تربة مجتمعية لم تتعود على إنباتها من قبل.
• وللديمقراطية حتى تنبت وتزدهر مقومات أساسية حيث لا يمكن الحديث عن أى نظام ديمقراطى دونما توفر كل تلك المقومات حزمة واحدة والتى يأتى على رأسها توفر طبقة وسطى حاملة للمشروع الديمقراطى لبناء الدولة الوطنية وهو المشروع الذى تلكأنا فيه كثيرًا وسبقتنا إليه أمم عديدة.
• فمشكلتنا الكبرى هى أننا لم نستكمل بعد بناء (الدولة) وسنظل ندور ونشكو ونئن ونغرق في التفاصيل وتفاصيل التفاصيل ونتحدث بتكرار لا يعرف الملل أو الضجر عن أعراض المرض دونما أن نتجه فورًا إلى تحديد المرض العضال، ودونما أن ننشغل بدقة التشخيص وتظل تسمع يوميًا حديثًا معادًا عن الفساد وعن سوء الأحوال وتدنى الخدمات وعن ممارسات تغلفها الوساطة والمحسوبية وعن إهدار متكرر لمعيار الكفاءة وعن مظاهر عديدة لغياب الدولة وعن غياب المحاسبة والشفافية والتقصير وغياب القانون وغياب المشاركة وعن غضب الناس وعجز الحكومة وعن...إلخ. طالما لم نستكمل اختراع الدولة وصناعة الشعب فالدولة لا توجد سلفًا والشعب أيضًا. ولندخل للموضوع:
ما مقومات النظام الديمقراطى أصلا؟
ونقول:-
1- المواطنة. التى تعنى في أبسط معانيها التساوى بين المواطنين في الفرص وعدم التمييز لأى سبب كان – الدين – العرق –الجنس – الفئة الاجتماعية،(المساواة).
2- سيادة الأمة. فالسلطة أى سلطة لا بد أن تكون نتاج إرادة شعبية أى أن تكون الأمة هى مصدر السلطات وكذلك التوازن والتكامل بين السلطات.
3- الفصل بين السلطات. فلا يجوز أن تتغول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية كما لا ينبغى أن تتركز السلطة التنفيذية في شخص واحد مهما كان.
4- قضاء مستقل.
غير خاضع لوزير العدل باعتباره أحد أعضاء السلطة التنفيذية وبعيدا عن الترغيب أو الترهيب حيث لا يزال التفتيش القضائى كله تابعًا لوزير العدل.
5- ترسيخ مبدأ حكم الأغلبية بواسطة التمثيل البرلمانى مقرونا بحماية حقوق الأقلية والفرد.
6- تعددية حزبية منضبطه لا تتوسل بالدين وليس لها مرجعيات دينية ولا تمارس أنشطة دينية طائفيه وتتمتع بتكافؤ الفرص بين جميع الأحزاب، وبحياد الإدارة تجاه الجميع تعتبر الدستور هو المرجعية الوحيدة وتعتبر المحكمه الدستورية هى الحكم بين السلطات.
7- انتخابات حرة نزيهة تجريها وتشرف على كل مراحلها السبعة هيئة وطنية مستقلة محايدة.
8- حماية حقوق الأقلية والفرد وإزالة الفهم المغلوط عن أن الديمقراطية تعنى فقط حكم الأغلبية.
• فالديمقراطية لها قدمان وليس قدما واحدة تسير عليهما (حكم الأغلبية) و(حماية حقوق الأقلية والفرد) أى لا بد أن يكون حكم الأغلبية «مقرونًا» بالحفاظ على حقوق الأقلية والفرد وإلا أجهض النظام الديمقراطى وهدم من أساسه وأن يكون ذلك الفهم لطبيعه الديمقراطية متوفرا وراسخا لدى جميع الأحزاب الموجودة، فالإسلاميون في مصر يظنون أن الديمقراطية هى حكم الأغلبية وفقط وإنك إذاحصدت الأغلبية في أى عملية انتخابية يحق لك أن تطيح بكل حقوق الأقلية والفرد وهذا عجيب !!.
9- إدراك أن سلطة التشريع مقيدة تماما بالدستور وإدراك الفرق بين القوانين العادية التى توضع بالأغلبية المطلقة ٥٠٪+١ والقوانين المكملة للدستور والتى تضع قواعد اللعبة السياسية وتنظم الدور السياسى وتضع قوانين السلطة القضائية والأحزاب والانتخابات وتنظم الحريات، والتى تتطلب توافقا وطنيا واسعا وأغلبية لا تقل عن الثلثين.
10- كفالة وحماية حقوق الإنسان، تفعيل المبادئ الأساسية التى نص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية السبع الرئيسية لحقوق الإنسان وتوفر محكمة مختصة لحقوق الإنسان.
11- تعاقد مجتمعى (دستور) يشيد عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة انتخابًا حرًا مباشرًا، يكون بمثابة المرجعية الوحيدة عند الاختلاف.
12- تمكين وتشجيع مؤسسات المجتمع المدنى وتوفير الإطار القانونى اللازم لذلك.
13- ضرورة الفصل بين الحيز العام والحيز الخاص للأفراد وضرورة تحديد دور الدوله وحدوده وتفريق قانون العقوبات بين الجريمة والخطيئة واقتصار دور الدوله على محاسبة مواطنيها على الجريمة في حق الآخرين حصرا وعدم سرقة دور الله وحساب الناس على ذنوبهم وخطاياهم في حق الله.
14- مدرسة وطنيه ترسخ قيم الديمقراطية من خلال مقرراتها ومن خلال معلمين مؤهلين لزرع تلك القيم في أبنائنا الطلاب وعلى رأسها قيم قبول الآخر وقيم الحوار واحترام الآخر وحق الاختلاف وقبول الهزيمة والنزول على رأى الأغلبية واحترام حقوق الأقلية والفرد، مدرسة تخرج كائنات مدنية قابلة للتعايش وليست كائنات طائفية جاهزة للصدام.
15- إعلام حر محايد، إعلام دولة وليس إعلام حكومة. يمول من دافع الضرائب وتشرف عليه هيئة مستقلة منتخبة ويقتصر على قناة فضائية واحدة توفيرًا للنفقات.
16- العلمانية.. باعتبارها أداة توحيد ومساواة تضمن حياد الدولة في الشأن الدينى فلا تنحاز الدولة لأتباع أى دين وتمنع الدولة من ممارسة أى سلطة دينية، وتمنع والمؤسسات الدينية من ممارسة أى سلطة سياسية. فالدين لله والوطن للجميع كما تضمن الفصل بين المجال الدينى والمجال السياسي، والعلمانية تضمن احترام حرية الضمير والاعتقاد، العلمانية ليست إلحادية تكافح الدين وإنما هى لمنع الفتن الدينية والحروب الدينية.العلمانية لا تفصل الدين عن الحياة ولكن تربأ به وتبعده عن الصراع السياسى فقط، العلمانية لا تمنع الدولة من مساعدة ديانات جميع مواطنيهاعلى قدم المساواة.
العلمانية لم تمنع الدين في أوروبا ولم تهدم الكنائس أو المساجد لكنها منعت التوسل بها لتحقيق أهداف سياسية.
17- المواطن العارف لحقوقه وواجباته المشارك في صنع حياته وبناء وطنه، المنتبه للدور السياسى بين الأحزاب، الفاعل وليس المفعول به اليقظ المتابع للشأن الوطنى المراقب والمحاسب الصانع للقانون والمحترم له، مع الاعتراف بحق عدم المشاركة للآخرين، احترام رغباتهم وحريتهم.
18- الشفافية والحق في المعرفة، وهو مايقتضى توفير أقصى درجات الشفافية والإفصاح في جميع ممارسات السلطة وإتاحة الفرصة الكاملة للمواطنين لمناقشتها.
19- المساءلة والمحاسبة، وفقًا لقاعدة أن كل سلطة تقابلها مسئولية.
20- المشروعيه: ويقصد بها اتساق تصرفات السلطة التنفيذية مع الدستور والقانون وخصوصًا رئيس الدولة وقد مررنا بتجربة مريرة مع الرئيس الإخوانى الذى اغتصب السلطة التأسيسة فجأة وأصدر إعلانات دستورية كما أهدر أحكام السلطة القضائية بالإفراج عن القتلة والمجرمين الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية نهائية.
• ويجب إدراك أن الترقيم هنا لا يعكس الأهم فالمهم ولكنها حزمة واحدة وأهمية واحدة لكل تلك المقومات.
• وأخيرًا: إذا كانت الديمقراطية عملية إجرائية فإنها لا تخلو من قيم والديمقراطية كالطائرة إذا تعطل أى من مقوماتها لا تستطيع الطيران ناهيك عن السير والتحليق نرجو الإدراك.