ترددت كثيرًا، عجزًا! ماذا أكتب عن هذه المجموعة القصصية العاصفة، التى من فرط رقتها وإنسانيتها تكاد تبصق في وجهى، بل في وجوهنا جميعًا، وهى لأستاذى الدكتور «خالد توفيق» أستاذ الدراسات وعلم اللغة بقسم «اللغة الإنجليزية» بكلية الآداب جامعة القاهرة، والجامعة الأمريكية، الذى علمنى ألا أصغى إلى الظلام حولى، ألا أركع لغرورى، ألا أختبئ من خطر المواجهة، ألا أيأس من تكرار المحاولة، ألا أرتدى الأقنعة، ألا أنسحب، ألا أنكسر، أن أبقى صامدة شامخة.
عنوان المجموعة «مفعول به مجرور بالضمَّة» يصح أن نطلقه على كل شخصياتها، وربما علينا جميعًا! وهى سبع وثلاثون لقطة حية، ميكروسكوبية، ستعثر على نفسك فيها، أو جزء منك، وقد تفضح الوجه المؤسف والمعتم فيك، لكنها بلا شك ستوقظ ضميرك، وتطهرك، وتحررك، وتمنحك المعنى الحقيقى والأجمل لوجودك.
تتساقط بغزارة في كل حكاية دموع الألم مختلطة بدموع الأمل، وتذوب خفة الروح في نسيجها الدرامى، كقطرات العسل؛ لتخفف مرارة تفاصيلها، ويتبدى الذكاء في مزج الفصحى بالعامية في لغة بسيطة، والدقة في انتقاء كل كلمة نافذة كالسيف، قادرة على اختراقك، بل اقتلاعك من جذورك، كمشرط حاد لطبيب بارع، يعرف طريقه جيدًا، يعتصرك من شدة الألم؛ لكنه يستأصل سمومك، ويشفى جروحك.
كاتب متفرد، يصغى إلى نوره الداخلى، يحمل في خلاياه هموم كل البشر والمخلوقات، خاصة البسطاء؛ أوجاعهم في أضعف لحظات العجز، وأحمالهم الثقيلة، وأحلامهم المتكسرة، في وقت ربما لا يجيد العديد منا سوى الشكوى من أبسط عثراته الشخصية.
في النهاية لم أجد ما هو أبدع من سرد بعض ومضات منها، تذكرنى بعظمة مؤلفات «بيتهوفن»، وأشعار «أمل دنقل»، ولوحات «بيكاسو»، وتماثيل «مختار»، وباليه «جيزيل»، وأعمال خالدة أخرى:
(بالونات الأمل الزاهية التى ألقى بها شاب من فوق سطح «معهد السرطان» الكالح في لحظات انهياره التام قبل سقوطه، معلنًا الهزيمة أمام شراسة هذا المرض الخبيث).
(وقوع الكاتب العظيم، وانغراس رأسه التى علمت أجيال في بركة من الطين، ثم عناء حمله على كرسيه المتحرك إلى الدور الخامس بمبنى التأمينات الاجتماعية؛ لصرف معاشه الشهرى؛ لأنه تخطى التسعين، ولابد أن يثبت أنه لا يزال حيًا، ولم يتحول إلى جثة).
(بكاء الرجل الخمسينى، وارتجافه بشدة بعد القبض عليه؛ لالتقاطه أرخص علبة جبن من «هايبر ماركت»، دفعه الجوع إلى دخوله، ثم تركه الجبن، ونقود وضعها الضابط في جيبة، وعربتان أغذية اشتراها له الزبائن، وأخْذِه كيس خبز، دفع ثمنه، وهى ثلاثة جنيهات، كل ما يملك؛ ليفطر بها مع أولاده في أحد أيام شهر رمضان).
(قلب الأم الذى يتمزق كل يوم؛ لبكاء طفلها بعد أن خرجت أصابع قدميه العشر من تلك الفتحات والثقوب في حذائه القديم، ووضعها الجنيه فوق الجنيه؛ لتشترى حذاء جديد له، ثم سحر ابتسامته التى عزلتها عن قبح هذا العالم، وهو يحتضن الحبيب الذى طال انتظاره).
(ذاكرة القلب الأقوى التى جعلت شاب بدون صديق عمره الذى غرق وفشل في إنقاذه يتيمًا، لا يسأل عليه أحد، ثم تتوقف ذاكرته تمامًا قبل لحظات وفاته).
(الأب الذى ألقى بنفسه وبأطفاله الثلاثة في النيل؛ بعد أن سُدَّت في وجهه كل أبواب الرزق، ثم تَجمُّع الجثث الأربعة عند مرسى أحد الفنادق الفاخرة، حيث يقام زفاف ابنة أحد الأثرياء؛ طمعًا في عالم الموت الأرحب، والأرحم بهم من كسرة خبز أرادوا أن يقتسمونها، وأبت الحياة أن تجود عليهم بها).
(حُلم كلب الشارع «المعفن»، وأكل عيشه المُر، الحاقد على كلاب الأثرياء، ذوات المقامات العالية، الذى قفز بأقصى سرعة من السيارة «الشيروكى» الفخمة على أقرب كومة زبالة؛ هروبًا من سجن وسلسلة وحُقَن مدام «سوزى»، وشروعها في قتل براغيثه، عِشرة عمره).
(فزع عم إبليس، الرجل الطيب، دميم الخلقة والهيئة، صاحب كشك بيع العطور المقلدة، وهو يترقب شابين على موتوسيكل، أرادا أن يصفعاه على قفاه، وما يلاقيه كل يوم من سخرية وضرب ومهانة من أمر لا دخل له فيه).
(شبح العطش والجفاف الذى لاحق «عبدالمجيد»، وأصابه بالاكتئاب، والخوف على نفسه وأسرته وكل المصريين؛ بعد تصريحات «إثيوبيا» بناء سد النهضة، والذى قاده إلى طعن «الفكهانى» بسكين نفذت إلى قلبه؛ لاستخدامه كميات كبيرة من الماء لغسل الفاكهة، والرش أمام محله).
(الشقيقان اللذان انتهى بهما المطاف إلى عامل «أسانسير» وعامل نظافة في دورات المياه، وما بين عرق البشر ووقاحاتهم وفضلاتهم ضاعت دراستهما للفلسفة واللغة العربية، وسقط رقم السجين «نيلسون مانديلا» الذى حمله أحدهما على صدره؛ إعجابًا به، لأنه سُجِن سبع وعشرين سنة، دفاعًا عن حقوق السود، ثم رفض الترشح للرئاسة مرة أخرى بعد أن أرسى مبدأى المساواة والمواطنة).
(ضمير الدكتور «مجدى» المهنى الذى دفعه إلى إسعاف شاب يصغره بأكثر من عشرين عام، أصيب في حادث، بعد أن طعنه بأفظع الشتائم أثناء انطلاقة بسيارته؛ لإنقاذ ابنته الوحيدة، التى رزق بها بعد أكثر من 15 عاما، ومنذ أن فقد أختها في العمر وبالمرض نفسه، ورفضه كل ضغوط الزواج على زوجته التى يحبها)
(سد جوع البطون الأهم من سد جوع الروح، الذى قاد موظف في الأرشيف إلى شارع «محمد على» يوميًا؛ لإلقاء نظرة مجانية على محال بيع الآلات الموسيقية، حتى وقع في غرام «العود الصدف» المُبهر، ثم قَبْضِه الجمعية الشهرية، وطيرانه؛ لشرائه بسعر التكلفة، ليجد يافطة المحل الجديدة «مسمط المعلم لمعى بكتيريا للحمة الراس والممبار، ألحان زمان سابقًا).
(الأبناء الثلاثة الذين أتوا لدار المسنين؛ لتسلم جثة والدهم، الذى امتنع عن الطعام لمدة ثلاثة أيام؛ لدخوله في حالة اكتئاب شديدة؛ لأنه لم يراهم منذ عامين، ثم غضبهم؛ لأنه لا يزال حيًا، وعودتهم دون أن يطلبوا رؤيته، أو مكالمته، أو حتى مراسلته في عيد ميلاده أو عيد الأضحى).
(جلوس دكتور «ماجد» في مكانه المعتاد في النادى الأهلى، وتأمله كل كرسى قضى الموت على صاحبه، لكنه لم يقضِ على الصدقات الجارية التى تركها خلفه، وبكاؤه بحرقه على ذلك الجزء من وجدانه الذى دُفِن مع من دُفِن، منتظرًا دخول الموت، الذى صافح كل أحبابه، وتأخر في مصافحته).
(الصرخة المجنونة «أنا موت الصرصار يا ماما» التى أطلقتها «ليلى» في لحظة تاريخية، جمعت بين الإحساس بالانتصار على ذلك الذكر الحقير، والفزع مما حدث، والإحساس بالرعب الذى كان يتملكها كل ليلة، ويجعلها أمَة له، يحركها كيف شاء، ومتى شاء! رغم أنها توقن أن الأنوثة لا تعنى الضعف على الإطلاق، والذكورة والشوارب لا تعنى الطغيان والبطش).
(الصفعة التى تركت آثار الانكسار على وجه «بائع الجرائد»، الذى يفيض شقاءً وتعبًا وفقرًا، وانعواج عموده الفقرى وهو يئن تحت وطأة حمله كومة الجرائد الثقيلة، الأحب إليه من كسب المال من الحرام في مجتمع أعوج، وانحنائه مقهورًا؛ ليجمع ما أسقطه من أشياء وصحف يتصدرها مانشيت «انخفاض معدلات الفقر»)
(أغنية «أنت عمرى» التى وضعتها «أمل» مكان أغنية «أمل حياتى»؛ ليسمعها زوجها القابع في غيبوبة، بقلب حى، وجسد ميت، ورفضها رفع أجهزة التنفس عنه، رُغم أن فرصة عودته إلى الحياة شِبه معدومة، ورُغم استدانتها من كل من تعرف، وبيعها أثاث بيتهما، وفص من كبدها؛ لتدفع فواتير المستشفى؛ لأنها تحبه منذ التقيا بالجامعة؛ ولأنه علمها حب القراءة، وتذوق الفنون والآداب، ومنح جزء من وقتها؛ لرعاية الأيتام، وزيارة الأطفال المرضى، ومساعدة المحتاجين والمشردين؛ ولأنه رفض أن يتزوج بغيرها، بعد أن حُرِمَت من القدرة على الإنجاب، فصار ابنًا لها).