الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

علاقة الفن بالأخلاق والسياسة عند أفلاطون

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تتخذ نظرية أفلاطون في الفن طابعًا أخلاقيًا واضحًا، وهى في ذلك إنما تعتمد على فكرة المحاكاة التى قال بها الفيلسوف اليونانى أفلاطون، إذ إن الفن يتصف بصفات الأشياء ذاتها التى يحاكيها، فينبغى أن يخضع للقيود نفسها التى يُخْضِع لها الناس هذه الأشياء في حياتهم الفعلية. فإذا كنا في هذه الحياة مثلًا نحرم السرقة ونعدها جريمة في حق المجتمع، فمن الواجب أيضًا أن نحرم الشعر الذى يتحدث عن السرقة ويجعلها تبدو أمرًا محببًا إلى نفوس الناس. وربما قيل إن تأثير التقليد أضعف من تقليد الأصل، ولكن الواقع أن المحاكاة الفنية أشـد إثـارة للنفـوس؛ لأن الفنـان مُبَالـِغ بطبيعتـه، ولأن الفـن أقرب صلة إلى الانفعال. وإذن فمن الواجب إخضاع الفن لقيود تشريعية صارمة، بحيث نطبق على الأفعال التى يدعو إليها الفنان نفس الأحكام التى نطبقها على نظائرها التى تحدث في الحياة الواقعية.
من هنا كان أفلاطون أول من شرّع الرقابة على الفن، لكنه تشريع وإن يكن مظهره سياسيًا، فإنه يستند في جوهره على رؤية عقلية؛ حيث إن الفن يجب أن يقوم على الحقيقة لا المظهر، وعلى العقل لا الحس. إذ يذهب أفلاطون إلى أن الحياة الخيّرة لا يمكن تحقيقها إلا إذا سلكنا في ضوء العقل. فهى لن تأتى عفوًا أو نتيجة لاختيار لا عقلي. وعلى ذلك فمن الواجب إخضاع كل أوجه نشاطنا لسيطرة العقل. وأى أوجه نشاط تؤدى إلى تقويض العقل يمكن، بل يجب، أن تُسْتَهجن أخلاقيًا. ذلك لأن هذه الأفعال تولِّد الشقاء للفرد وعدم الاستقرار للمجتمع. ولما كان مثل هذا النشاط يقف حائلًا دون تحقيق مثل الإنسان العليا. فإن في هذا الكفاية لإدانته.
ويُلاحظ من ناحية أخرى أن أفلاطون حين يتعرض لتربية الأحداث في الجمهورية، فإنه يشير بصفة خاصة إلى ضرورة طرد الشعراء والفنانين من المدينة، لأنه يرى أن الفن يقلد الطبيعة فيحسنها، والطبيعة الحسية في حد ذاتها إن هى إلا مجموعة من أشباح وظلال كاذبة للعالَم المعقول، فكأن عمل الفنان هو تقليد أو محاكاة الشيء المقلد، ولهذا فإن الفن في نظره - كما يقول - هو «محاكاة المحاكاة»، فلا يجب أن نجعل منه موضوعًا لتربية الشباب. ومن ناحية أخرى، فإن الفنانين يصورون الرغبات الدنيئة وأحط الغرائز ويحببونها إلى نفوس الناس، فإذا تُرِكَ لهم الحبـل علـى الغـارب فـى المدينـة أشـاعوا الفسـاد والرذيلة فـى نفــوس المواطنين.
والواقع أن أفلاطون لم يطلق حكمه الجائر على كل أنواع الشعر، بل خص الشعر التمثيلى بهجومه واستثنى الشعر الغنائى والملحمى والتعليمي، لأن المحاكاة في هذه الأنواع لا تتجه إلى نقل المحسوسات المتغيرة، بل هى تعبير صادق عن قيم الحق والخير والجمال حين تتخذ موضوعاتها من مدح الآلهة والأبطال، والتغنى بصور المجد والبطولة والإرشاد إلى المثل العليا. والسبب في تنديد أفلاطون بالشعر التمثيلى هو أنه يقدم للناس انهزام البطل ومأساته، أو يقدم الهزل الذى يجرى في حياة الناس اليومية أو يصور الأحاسيس والانفعالات التى تجرى في شعور الفرد العادي. إن أفلاطون لم يقصد حتى الشاعر التمثيلى على الإطلاق، بل قصد الشاعر الذى يعمل على التسلية الذى يمثل (ببراعة رائعة وبطريقة مسلية للغاية) الأشياء التافهة والأمور المنفرة، أى الشخص الذى يثير ضجيجًا شبيهًا بضجيج البهائم. (الفقرة 386 B الكتاب الثالث - محاورة الجمهورية)، وعند الوصول إلى هذا الحد من المناقشة، فإن أفلاطون لم يكتف بالسماح ببقاء أنواع معينة من الشعراء فحسب، بل سمح صراحةً باحتفاظ المدينة بأنواع معينة من الشعراء التمثيليين، هم أولئك الذين «يحاكون أسلوب الفضلاء».
إن أفلاطون يحذر بصفة خاصة من الشعراء الذين يقرضون الشعر على نسق «هوميروس». ويشير إلى أن هؤلاء الشعراء - بما يسوقونه من مديح ونفاق للأثرياء والحكام للحصول على المزيد من العطاء - يثيرون حسد الفقراء على الأثرياء، ويدفعون بفئات التجار والعمال إلى الشره والإسراع في اكتناز الأموال لكى يصبحوا على شاكلتهم، وبذلك يصبح الهدف الأكبر للصناع والتجار وأرباب المهن والحرف المختلفة هو اكتناز الأموال حبًا فيها ولذاتها، فينتشر الخداع والغش والتدليس والتدنيس بين سكان المدينة، ويقل تجويد الصناعة والأعمال، فتفسد المدينة وتنهار ويكون السبب في ذلك هؤلاء الشعراء.
ويبدو أن الشعر يحتل مكان الصدارة في فلسفة أفلاطون، على شرط أن يجتمع فيه حسن الصياغة الفنية مع الإلهام السامي. والفلسفة تقدم في هذا المقام للشعر أوفر المنابع وأكثرها خصوبة. أما الموسيقى سواء الآلية أو الصوتية أو الراقصة (إذ يُعَد الرقص أحد أنواع الموسيقى عند أفلاطون) فتؤدى مهمة أساسية في الدولة: إنها «حارسة» المدينة أو «حصنها». ولا بد من أن تُهذّب الموسيقى وترتقى لكى تُهذّب الأخلاق، وسبيل ذلك أن تخضع الموسيقى للبساطة المطلقة، وأن يُنقى الإيقاع إلى أبعد حد، وذلك على نحو يجعل الموسيقى معتمدة كل الاعتماد على السياسة والأخلاق.
وعلى أية حال؛ فإن كل الفنون المتعلقة بالخطابة أو السفسطة أو خداع البصر أو الزيف والوهم، كانت تبدو لأفلاطون غير جدير بأن تندرج تحت مسمى «الفن». ولما كان أفلاطون من أشد أنصار الفن التقليدى فهو يرفض كل أنواع التجديد في الفن، وقد أخذ دائمًا جانب القدماء في كل معركة دارت بينهم وبين المحدثين. ومن أجل هذا عارض أفلاطون كافة الأساليب الفنية في التصوير التى تظهر للصورة معنى يتلاشى عند النظر إلى ألوانها عن قرب. وعلى ذلك فالرسم يكاد يكون دائمًا منبع الأخطاء، فهو مبهم عن قرب، خادع عن بعد.
أما فنون المسرح والنحت والعمارة فهى على العكس من ذلك فنون مشــاركتها أكثر فـى المبـدأ الأســمى. فالجمـال يتجـدد فيهـا بالقيـاس والانسـجام. أى أنه يحقق لذة لا يمكن وصفها إلا بأنها لذة جمالية. 
وهكذا تنتهى كل تفسيرات الجمال عند «أفلاطون» إلى التوحيد بينه وبين المثال العقلى الذى يتجلى في التناسب والائتلاف الهندسي. ويصف اللذات الجمالية من تذوق الفنون بأنها تنشأ من إحساسنا بجمال الألوان والأشكال والأصوات ولا تكون مصحوبة بأى ألم.