كان خبرا جميلا عندما أعلن فوز جريدة «البوابة» منفردة بالمركز الأول في جائزة «التميز الصحفى» عن مقال كاتب هذه السطور «التوك توك والبيروقراطية.. ملفات في أجندة الرئيس».
لكن أجمل خبر عن مصر طالعنا في الشهور الأخيرة، إعلان رئيس الوزراء دكتور مصطفى مدبولى الخميس الماضى، بدء الحكومة إجراءات القضاء على «إمبراطورية التوك توك» بكل ما تمثله من قبح وفساد وعشوائية.
فقد أعلنت الحكومة عن خطة عمل لاستبدال عربات التوك توك بسيارات مينى فان الآدمية، وذات المظهر الحضارى، وذلك من خلال توفير وزارة المالية لقروض ميسرة تماما كما حدث عند إحلال التاكسى الأبيض بديلا عن التاكسى القديم.
هذا يعنى أنه لن يقود السيارة إلا كل من بلغ عمره 21 عاما، ومن حقه إصدار رخصة مهنية، أى القضاء على ظاهرة السائقين الصغار وعمالة الأطفال، وترخيص جميع مركبات الأجرة على مستوى الجمهورية دون استثناء، بالإضافة إلى الحد من استخدام التوك توك في عالم الجريمة؛ حيث سيستمر التوك توك كوسيلة نقل بموجب رخصة قانونية داخل القرى والنجوع.
الأكثر من ذلك تنظيم حجم العمالة في هذا القطاع ليتوجه أغلبها إلى أماكنها الطبيعية داخل الورش والمصانع؛ حيث يهدر التوك توك ما يقرب من 20 % من إجمالى حجم الأيدى العاملة في مصر، فطبقا لجهاز التعبئة العامة والإحصاء يشكل إجمالى حجم القوى العاملة نحو 30% من تعداد سكان مصر بمعدل 28.69 مليون نسمة؛ وفى الوقت نفسه، رصدت الإحصاءات الرسمية أكثر من 3 ملايين توك توك؛ أى ما يعادل 10% من نسبة القوى العاملة، ولأن العربة يعمل عليها أكثر من سائق في عدة ورديات على مدى اليوم، يمكننا القول إن ما يقدر بين 15 و20% من قوة العمل في مصر، يعملون على عربات التوك توك، وهو ما يمثل إهدارا غير مسبوق لطاقة العمل في مجتمع أحوج ما يكون إليها، خاصة في ظل السياسات الحكومية التى تعمل على تشجيع المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.
في مارس 2018، وبعد إعلان فوز الرئيس عبدالفتاح السيسي بالولاية الثانية في الانتخابات الرئاسية، كتبت في هذه الزاوية المقال المشار إليه، محذرا من خطورة انتشار ظاهرة التوك توك في المجتمع المصرى على المشروعات القومية الكبرى التى تحتاج ملايين الأيدى العاملة.
وأشرت إلى أن التوك توك تسبب في إهدار طاقة المصريين، والإطاحة بقيم التعلم والعمل والجدية، علاوة على الأخلاق كونه يحقق مكسبا سريعا للشباب والأطفال دون حاجة إلى تعلم مهارة معينة.
فقد كان التوك توك ولا يزال أحد مظاهر العشوائية التى تفشت، وتجسيدا لقيم الفهلوة والرغبة في تحقيق المكاسب السريعة والسهلة التى سادت المجتمع المصرى منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضى، بسبب التطبيق الخاطئ لسياسات الانفتاح الاقتصادى، عندما انتشرت ظاهرة تجارة العملة في السوق السوداء، ثم تلتها شركات توظيف الأموال ذات الطابع الإسلامى التى جذبت المودعين بإغراء الفائدة الكبيرة.
بعدها بعقد كامل تقريبا ظهر التليفون المحمول الذى وجد فيه آلاف الشباب وسيلة جديدة للكسب السريع دون أدنى عناء ببيع دقيقة المهاتفة بـأضعاف ثمنها، وما هى إلا بضع سنوات حتى ظهر التوك توك، ذاك الوافد الجديد على المجتمع المصرى.
ربما وفرت تلك الوسائل اللا أخلاقية مصدرا لدخل عشرات الآلاف من الأسر المصرية، لكنها كانت سببا مباشرا في اغتيال اليد العاملة الماهرة، حيث شرع أصحاب الورش والمصانع في استجداء الآباء لجذب أولادهم الذين فشلوا في الدراسة، وتعليمهم صنعة أو حرفة ولكن دون جدوى.
واضطر أصحاب مصانع وورش الملابس والنسيج إلى استيراد عمالة أجنبية آسيوية لتعويض النقص رغم تعدادنا السكانى الهائل، وأذكر أن صاحب إحدى الورش بمنطقة الخرنفش بباب الشعرية، عرض قبل عشر سنوات دفع مبلغ 50 جنيها كأجر يومى لصبى مقابل تعليمه صنعة حياكة الملابس، على أن تزيد بعد اكتسابه الصنعة إلى 100 جنيه، لكنه لم يجد، فالتوك توك يوفر ضعف هذا المبلغ يوميا دون أن يضطر الصبى لمراقبة الأسطى وتعلم الصنعة واكتساب المهارة.
التوك توك كان أقوى المعاول التى ضربت قيم المصريين وفككت المنظومة الأخلاقية التى تحكمهم بدءا من العادات والتقاليد، وصولا إلى الالتزام بالقوانين واللوائح، فالمكسب السريع جعل الأسر تدفع بأبنائها الذين فشلوا في التعليم إلى قيادة تلك العربة المشوهة بدلا من ورش الميكانيكا والسباكة أو الكهرباء؛ بل إن بعض الأسر دفع بأطفاله في سن مبكرة لا تجاوز العشر سنوات، للعمل كسائقين دون رخصة، وبعيدا عن كل أشكال الرقابة، وشيئا فشيئا تجرأ السائقون الصغار على القانون وخرجوا إلى الشوارع والميادين الرئيسية على ظهور وحوشهم الصغيرة «التوك توك» يدهسون تحت عجلاتها كل قيمة ومعنى بخلاف ضحاياهم من البشر.
وبالطبع لا تحلو قيادة التوك توك دون المخدرات من الترامادول إلى الإستروكس، على إيقاع أغانى المهرجانات الصاخبة لتبدو شوارع وحوارى مصر في صورة عجز أكثر المتشائمين عن تخيلها.
لكن أخطر ما كرسه التوك توك هو ثقافة التكاسل والتواكل والاستسهال، بحيث أصبحنا نجد شبابا في أوج عنفوانهم وصحتهم يستخدمون التوك توك لقطع مسافة لا تجاوز محطة أتوبيس نظير عشرة جنيهات كاملة كأجرة، وفى الوقت نفسه يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على مواقع التواصل الاجتماعي عندما ترتفع تذكرة مترو الأنفاق الذى يقطع عشرات الكيلومترات في بضع دقائق، وإذا طالبت بالتصدى للتوك توك كأحد مظاهر العشوائية وأدوات الجريمة اتهموك بالانحياز ضد الفقراء وقطع عيش الغلابة، متجاهلين عن عمد حقيقة أن معظم ما يكسبه سائقو التوك توك يذهب لشراء المخدرات التى تعد سببا رئيسيا في أغلب حوادث السير بخلاف استخدام التوك توك في جرائم الخطف والاغتصاب والسرقة ونقل وتهريب المخدرات.
في النهاية قرار الحكومة الأخير باستبدال عربات التوك توك بسيارات الفان السبعة راكب واتفاقها مع مصنعى التوك توك على خفض معدلات إنتاجه وإحلال تصنيع سيارات المينى فان بدلا منه، يعنى أننا إزاء حكومة جادة في القضاء على أخطر مظاهر العشوائية في الشارع المصرى، وحرصها على احتفاظ الجادين والملتزمين بالقانون من السائقين بفرص عملهم، وكذلك على مصلحة أصحاب المصانع الذين سيستمرون في أعمالهم، ولكن كمصنعين لوسيلة نقل حضارية وربما تحقق مكاسب أعلى للجميع.