هناك مفاهيم متعددة متداولة لها واقعها المدمر والسيئ على النفوس وعلى العقول والرءوس، هذا المرض اللعين الذى يتسلل ويسكن في عمق القناعة وينحرف عن مساراته ويتحول الإنسان فجأة أسير المرض مستسلمًا ويقع تحت تأثير المخدر الذى يصعب احتواء آثاره.
التصنيف الإنساني لهذه المفاهيم تفرق بين الإشاعات والتشنيعات وشعبة أخرى هى الدسائس لكن أبشع درجاتها فيما يطلق عليه الوشايات، والدسائس هو مرصد إنسانى له جاذبية في المحافل الوظيفية أو ساحة الإبداع حتى في الحياة الأسرية والعائلية والدسائس لها معادلة كيماوية تسمم التعامل الإنسانى وفى كل الأحيان تنتعش الشرور في النفوس وحتى الآن لم يتمكن علم النفس الحديث من وضع تعريف لهذا المرض وتأثيراته.
دفعنى لتذكر هذه القضية هو مرور خمسين عامًا على تعرضى لوشاية مدمرة وأحمد الله على النجاة من ساعات مظلمة لغياهب الجب لمعتقل القلعة دون مبرر أو إسناد أو مقدمات وأحيط بكل الحصار الحكم والكتمان فأننى لا أوحى بعمل بطولى أو نضالى فهذا الموقف يجعل الإنسان يتمزق وتتأرجح الظنون ما بين التسييس والتمهين فإننى كنت أحظى بثقة وتقدير خاص مع أسرة الرئيس عبدالناصر كل منهم أضع في مكانة الذى يستحقه منهم وكانت تتوج العلاقة تلك الثقة التى أتمتع بها مع السيدة الفاضلة عنايات الصحن، وبالنسبة للجانب المهنى فأنا أقوم بتأدية واجبى من خلال صحيفة قومية وهى أخبار اليوم، لكن تناثرت وشاية وجدت طريقها للشر وبعد نحو ثلاثة أشهر تأكدت سلامة موقفى والسبب الفاتح من سبتمبر.
خمسون عامًا مرت على الواقعة والحديث عنها جعلها مناسبة تتآكل سنويًا فأصبحت مجرد مناسبة يصعب تذكرها فلم تعد تدرج على أنها على سبيل التذكار، لكن الهدف من الحديث يعبر عن تاريخ أتوقف عنده بكل شخصى لا يرتبط بتفاصيل حول ما يحيط بالشعب الليبى من تحديات وأزمات، وفى ذكرى الفاتح من سبتمبر التى لم يحتفل بها أحد ولم يشارك إلا عدد محدود للذين سردوا تاريخ الفترة بكل حقائها.
إن ليبيا بالنسبة للمصريين بنبض القلب ولم تكن لشخصى أدنى علاقة مباشرة بتفاصيل الحياة على أرض هذا القطر ولم تكن أحلامى السفر لها أو التفاعل مع منظومة الحياة فيها أو المشاركة بأى محفل علمى أو أدبى خارج حساباتى من أى اتجاه، ومع ذلك فإننى شديد العرفان لمناسبة الفاتح من سبتمبر 1969م رغم تحفظات مبدئية نحو مسلكها وطبيعة قيامها.
لولا قيام الانقلاب العسكرى على مملكة السنوسى ربما لا أعلم لأى مدى يمكن أن تصل إليه مسيرتى وحياتى إذا لم يصبح الفاتح حقيقة على أوراق الأجندة، فقد فوجئت بالرائد مصطفى هيبة يأتى لمكتبى بأخبار اليوم ووقتها كنت في ذروة العمل وكنت أعرفه جيدًا فوجدته يقول لى سيد بك عاوزك.. وكان الرد وهو اسم العميد سيد فهمى مفتش المباحث العامة والذى أصبح وزيرًا للداخلية بعهد السادات وفى ثوان كنت في ضيافته ودخل هذه الجلسة الدكتور شمس الدين الوكيل رئيس جامعة بيروت وسألنى ما حدود العلاقة بالرائد مصطفى عبدالناصر شقيق الرئيس.. وكان ردى ولماذا تتحدث عن مصطفى فقط فلجميع أفراد الأسرة تربطنى بهم علاقة.. وظل يدون كلمات مختصرة وينظر بسرعة بساعته وشعرت أن الاستجواب ليس مجاله هنا.. وقال لى عاوزينك في القاهرة وانتقلت للقاهرة في طاقم حراسة وبعدها كنت بمكتب اللواء حسن طلعت، وأشار إلى أننى سأتوجه لضابط كبير اسمه (منيسي) وجاء ضابط آخر فاصطحبنى فوجدت السيارة تتجه لتبة القلعة حيث اللواء محمد رضا عبدالسلام واصطحبنى بعد التفتيش للزنزاتة منفردًا وكنت في قمة الإجهاد وسيطر النوم بدرجة عميقة وبعد يومين نقلت لجناح آخر بوسط القلعة وكنت وقتها أسمع صراخ مدير مكتب على صبرى الذى أودع بالمعتقل ووقتها كانت هناك حركة نشطة ما بين اعتقالات ومحاكمات وتسكين بالأجنحة وكان لهيب أغسطس على أشده ولم يكن يسمح بالحديث مع أى شخص إلا بالمكلف بالمرور على الزنازين، ومن اللافت هو ترسانة الأسماء التى دونها المعتقلون فهى عبارة عن مذكرات مختصرة يتم حفرها على الحائط.
بهذه المناسبة عندما صدر الإفراج والتقيت بعدها مع أستاذنا محمود أمين العالم فرأيت أن من واجبى أن أشكره فكان دائم السؤال عني، وأشرف على أخبار اليوم الرئيس أنور السادات وأعاد لرئاسة الأخبار أستاذنا موسى صبرى بعد فترة تنكيل تعرض لها ولكنه واجه الأمر بشجاعة وارتدى ملابس الحرب المهنية فأجرى حوارًا وعنوانه حوار بين الحقير والوزير وتعمد كتابة اسم الحقير قبل الوزير فدار بين الوزير شعراوى جمعة ووصل لقمة العشق المهنى حينما فكر في إصدار ملحق أسبوعى عن المرأة وهى أول فكرة شبعت بأفكارها المجلات النسائية المعروفة وتعرض قضايا الجنس الناعم برؤية غير نمطية وأقبل على متابعتها.
وسألنى الأستاذ محمود أمين العالم عن الذكريات عند مقابلته وأثار الجدران التى حفرتها طوال مدة إقامتى وقلت له يبدو أنه تم تحديث الطلاء وظهرت عليه أعراض الألم على إهدار الذكريات ودار حديث الذكريات مع واحد من أعظم الفلاسفة بالقرن العشرين وقد ندمت شخصيًا على أننى تركت الحديث يسير في إطار الذكريات بعيدًا عن التدوين لهذه الفرصة فالبرنامج اليومى ملئ بالأدوية تحت إشراف (مخبر) والمشروبات بأكياس بلاستيك ودورة المياه تحت إشراف كامل للمجندين وتقديم وجبة الإفطار الجافة وتغلق أبواب الزنزانة طوال اليوم حتى المساء للذهاب لدورة المياه وبعدها الغذاء وكانت الشمس في كبد السماء تضاعفت درجة حرارتها ولم يكن مسموحًا بالتريض.
بالمناسبة لم أرصد معى أو مع غيرى أى تجاوزات وفجأة تم لجميع النزلاء السماح بفتح أبواب الزنزانة لمدة ساعتين قبل الظهيرة وفوجئت بجارى بابتسامة يسأل عن اسمى فقلت له وعن مهنتى وسألته فرد على.. أنا اسمى مصطفى مشهور (وهو المرشد الرابع للإخوان الذى خلف الأستاذ عمر التلمساني) وأعمل متنبئ جوى بمصلحة الأرصاد ومحترف الاعتقال بالقلعة منذ عام 1936م وعرفت أن النزلاء عناصر قيادية بتنظيم الإخوان وسمعت أسماء كثيرة وبدأ الحوار للمزيد من تبادل اجتذاب الحديث وأشهد الله هذه المجموعة في قضية سيد قطب أو بعض المدرجين بالقضايا ولم أرصد أو أسمع منهم أى لون من ألوان التعذيب ولم أسمع مكان يتناثر حولنا عما نشاهده في الخيال السينمائى، وأؤكد أنه لم يتسرب رغم كل أحكام الوصول لتفاصيل حول أسلوب تعامل النزلاء بالمعتقل، وفى الشهور الأربعة التى قضيتها لم أسمع عن ما كنا نسمع عن خلع الأظافر وحرق الشعر والكى بالنار والامساك بالمناطق الحساسة للجسم أو أى آثار ولكن لا أروج لممارسات الاعتقال لكن وصلت لقناعة نار الشارع بتعقيداته طول الدهر ولا جنة المعتقل لو ساعة واحدة.
لمعت بذهنى أمام هذه الانفراجة أن أطلب مقابلة ضابط المعتقل لكى يوصل رسالتى للمسئولين الذين لا أعلمهم وكان الشاب بغاية التفهم وأمليت رسالتى التى أطلب كنزيل أن أعرض أمرى على محقق أو على نقابة الصحفيين طالبًا مقابلة النقيب أستاذنا أحمد بهاء الدين أو وكيله كامل زهيري، وعلى مستوى المؤسسة أطلب مقابلة المشرف العام على أخبار اليوم وقتها وهو الرئيس أنور السادات.
ووعدنى بإتمام الرسالة دون أى رد لكن ما حدث كانت وقائعه أكثر إثارة من خليط الأفلام الإنسانية أو الاجتماعية ولا تخلو مشاهدها من التشويق.