ستظل فاتورة الفساد في مصر هى الأعلى من بين الفواتير المطلوب سدادها في هذه المرحلة، وللفساد جذور عميقة ضاربة بتشعباتها في كل اتجاه، بدأت تلك الفاتورة في التشكل منتصف السبعينيات مع سياسة الانفتاح سداح مداح، فتراجعت القيمة مقابل الجنيه مجهول المصدر، وتطورت منظومة الفساد بعد ذلك.. انتشرت تجارة المخدرات وبعدها تجارة البودرة.. وتعاظمت سرقة الأراضى وانتظم الهجوم المتكرر على أموال البنوك وانفتحت صالات المطارات برعاية حكومية لتهريب لصوص البنوك.. كل تلك العناوين تابعها من احتفظ ببعض وعيه من جيل الثمانينيات والتسعينيات في مرارة وعجز ودفع عمره بالكامل بسبب تلك الجرائم.
أبناء ذلك الجيل الذى شب وهو مطارد في لقمة عيشه يدخلون الآن إلى الستين من أعمارهم.. لذلك هم الشهود الأحياء على عملية تجريف مصر ونهب المال العام.
هرب منهم من هرب إلى الخليج باحثا عن عمل ومات منهم من مات كمدا على سريره في بيت أبيه.. ولست مبالغا إذا قلت إن الذين عانوا في الأربعين سنة الماضية كانوا هم الأكثر دفاعًا عن مستقبل هذا الوطن، وإذا كان لثورتى يناير ويونيو آباء مؤسسين، فأنا أزعم أن الجيل الشاهد على التحولات الاقتصادية والاجتماعية في مصر هو الأب الشرعى لهاتين الثورتين، لذلك لم يتردد هؤلاء الآباء عن دعم وتأييد ٣٠ يونيو وما بعدها.. ودليلى على ذلك أنه مع صعود جماعة الإخوان الفاشية للحكم أطلق الكثيرون من أبناء دولة الحزب الوطنى لحاهم واستعدوا للتسبيح بحمد المرشد، ولكن يونيو كانت أسرع من تحولاتهم لنعيش معا اللحظة الراهنة.
تعايش الجميع مع أحلام دولة ٣٠ يونيو.. دولة سيادة القانون والوحدة الوطنية وملاحم التنمية في كل اتجاه.. نزفت قلوبنا دما مع شهدائنا في سيناء.. كرهنا الإرهاب وصانعيه ومموليه.
ضربت مصر في سنواتها الأخيرة المثل للعالم كله في المواجهة الشاملة للإرهاب وهذا شرف لنا وفخر نعتز به.. كاد المصرى أن يؤجل شعار رغيف العيش من أجل دحر أصحاب القنابل المفخخة المتسترة بالدين.. وبينما المعركة تدور على هذا النحو استطاعت بواقى الدولة البيروقراطية العميقة من هبشة هنا وسرقة من هناك.. ورغم أننا ضربنا المثل سابقا برموز من وزراء ومحافظين تم سجنهم على ذمة قضايا فساد.. إلا أن الثعالب الصغيرة ما زالت تعمل بهمة ونشاط.
لكل هذا يصرخ الذين ذاقوا المر في كل العصور بضرورة أن تعلن كل الأجهزة الرقابية في مصر حالة الطوارئ والتنسيق الكامل فيما بينها، والعمل على مدى ٢٤ ساعة من مباحث الأموال العامة إلى الرقابة الإدارية إلى غير ذلك من أجهزة لا نعرف اسمها.. وعلى خط مواز لا بد من مشاهدة علنية لما يقولون عنه العدالة السريعة الناجزة لأن بطء التقاضى يفتح الباب للإحباط وفقدان الأمل لدى الضحايا.. حقوق المتهم القانونية في الدفاع مصونة، ولكن سيف التأجيلات والمراوغة التى يحترفها بعض المحامين يجعل العدالة الناجزة في امتحان صعب.
بلادنا تستعيد عافيتها بالعدالة والمساواة وتحديد الأهداف للمعارك الكبرى، وإن لم تكن مواجهة الفساد معركة مصير فسوف تخسر مصر الكثير، وتصبح أعمارنا قد ضاعت دون مقابل.. أعرف أن الحمل ثقيل جدا، ولكن لا مفر من المواجهة والشفافية والإعلام الواعى الذى يرافق تلك المعركة كرافعة أساسية لها.
نريد أن نحتفل بوضوح الرؤية.. ونريد أن نعيش في مصر التى نريدها.