• قبل أن نبدأ: فالآغورا هى الساحة الكبيرة في بلاد اليونان قبل الميلاد، حيث كان يتجمع من لهم حق التصويت من الأحرار للإدلاء بأصواتهم فيما يخص القوانين التى ستحكم المدينة وهى بداية اختراع الديمقراطية تاريخيًا.
• وقبل أن نبدأ أيضًا فالسياسة (حسب المفكر والناقد السورى الأشهر جورج طرابيشي) هى بنت اختراع الديمقراطية وبنت اختراع المدنية.
• وعلينا أن ندرك أن الديمقراطية قد تطورت من حيث التعريف والمفهوم على مدى قرون عديدة، بينما لا يزال منا من يقف عند تعريفها الأول الذى ولد قبل الميلاد «حكم الأغلبية» وخصوصا «الأسلامويين»!
• وفى كتابه (الحريات القديمة والحديثة) 1819 أوضح بنجامين كونستانت الفرق بين الحرية بمعناها (القديم) السائد في المدن اليونانية ثم معناها تاليًا في المدن الإيطالية.
• حيث تطور المعنى وتحرك من مجرد معنى قائم على (الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية) إلى معنى جديد تجاوز حكاية المشاركة والانتخابات إلى (الاعتراف للفرد بمجال خاص للفرد يتمتع فيه بالاستقلال ولا يخضع فيه لغير القانون).
• كذلك فهناك الديمقراطية القديمة (الشعبية) والتى كانت تعنى فقط وحصرًا (حكم الأغلبية السياسية) والديمقراطية الحديثة. (التمثيلية) (البرلمانات) (والنواب عن المواطنين) والتى أكملت التعريف السابق والكلاسيكى للديمقراطية، حيث كان يقتصر على عبارة أن (الديمقراطية هى حكم الأغلبية السياسية) وقرنته (بحماية حقوق الأقلية السياسية والفرد).
• فصار تعريف الديمقراطية الجديد هو (حكم الأغلبية مقرونا بحماية حقوق الأقلية والفرد).
• ومن وقتها صار المعيار الأكبر والأهم في قياس مدى جودة أى نظام ديمقراطي، هو مدى قدرته على الحفاظ على حقوق الأقلية السياسية بل والفرد، والذى قد لا ينتمى للأغلبية السياسية ولا ينتمى للأقلية السياسية معًا.
• وفى الديمقراطية كعملية سياسية نحن نتحدث عن «أغلبية سياسية» و«أقلية سياسية» طبعًا، وهى متغيرة بالضرورة كل انتخابات فلا توجد أغلبية دائمة في النظم الديمقراطية أو أقلية دائمة أيضًا.
• وحديثًا ومع بدايات القرن التاسع عشر حدث تطور ثالث ومهم لمعنى الديمقراطية جعلها تتجاوز مفهوم (حكم الأغلبية السياسية) القديم ومفهوم (حماية حقوق الأقلية السياسية والفرد) الجديد إلى درجة أصبح (تمكين الأفراد أساسًا من حقوقهم ومساعدتهم على ممارستها عبر توفير مستوى من التعليم مناسب ومؤهل وعبر مستوى اقتصادى مؤهل ومناسب ومساعد على العيش الكريم) هو هدفها الأساسى وصار التزام الحكومات في الدول الديمقراطية بإعطاء أولوية قصوى للإنفاق على التعليم والصحة وبرامج الحماية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية والرفاه الاجتماعي التزامًا أساسيًا بديهيًا.
• حيث أضفت الفلسفة الليبرالية بداية من القرن الثامن عشر فيضًا ضخمًا من التركيز على العناية بحقوق الفرد أيا كان موقعه الانتخابى ضمن الأغلبية السياسية أو ضمن الأقلية السياسية أو خارج دائرتهما معًا فتطور مفهوم وتعريف وطبيعة النظام الديمقراطى.
• حتى صار معيار الحكم على جودة أى نظام ديمقراطى ليس بمدى حماية حقوق الأقليه والفرد بل بمدى «تمكينه» للأفراد من حقوقهم ومدى مساعدتهم وتحفيزهم وتوفير الظروف التى تساعدهم على ممارسة حرياتهم.
• ويحكى المفكر السورى جورج طرابيشى ضمن هرطقاته المنشورة على جزأين حكاية الديمقراطية عبر التاريخ، ميلادها الأول وميلادها الثانى قائلًا: السياسة بنت الديمقراطية.
•الولادة الأولى للسياسة كانت حين اخترع الإغريق الديمقراطية كنظام للحكم في أثينا في القرن الخامس ق. م.. إذن ليس من قبيل المصادفة أن تبدأ الفلسفة السياسية بأفلاطون.(اليوناني)، وأرسطو اليونانى أيضًا، أفلاطون يكتب محاورته الشهيرة(الجمهورية).
أرسطو يكتب محاورته الأشهر (السياسة)، إذن السياسة علم يونانى الأصل.
•وحسب طرابيشى إن السياسة علم نشأ في اليونان، لأنه توفرت له لأول مرة في التاريخ شروط ميلاده:
1- اختراع الكتابة.
2- اختراع المدنية.
صحيح أن الكتابة واختراعها سابقان على اليونان فقد سبقهم الفينيقيون إلى اختراع الكتابة الأبجدية، لكن اليونانيين أحدثوا تغييرًا في وظيفتها من كونها أداة للتجارة إلى كونها أداة للسياسة.
• ولأن المدنية اختراع يونانى الأصل والمدنية شرط ميلاد السياسة، لذا فليس مصادفة أن يكون اسم المدينة (polis) والسياسة (politique) مشتقة منها فاختراع المدينة أدى إلى اختراع رابطة جديدة بين الناس، فبدلًا من رابطة النسب في القبيلة أو العشيرة أو رابطة الولاء أو الاستتباع، اخترعت رابطة المواطنة أى الانتماء المواطن إلى مدينته.
• وعلى عكس المدن المحترمة الأخرى في الحضارات الأخرى لم يكن المركز هو القصر أو القلعة أو المعبد وإنما كانت الساحة العامة.. (الآغورا) يتجمع فيها المواطنون خمسين مرة في السنة يدلون بأصواتهم على أساس مساواة عديدة مطلقة لانتخاب القادة والقضاة والاقتراع على القوانين التى ستدار بها المدينة.
• إذن سيفكر الناس وسيقررون ويدلون برأيهم (لغة) و(عقلا) معًا فنشأت كلمة (لوجوس) أى اقتران اللغة والعقل معًا ونظام اللوجوس هو المؤدى الحقيقى للديمقراطية في عالم كان الحاكم يومها يحكم بقوة النسب أو الوراثة أو التفويض الإلهى.
• الديمقراطية إذن هى خطاب عقل إلى عقل لانتزاع اقتناع إيجابى أو سلبي.
• نظام الرق كان شرطًا تكوينيًا- حسب طرابيشي- لطبيعة الديمقراطية وقتها فهم يجتمعون خمسين مرة في السنة وهو يقتضى تفرغًا شبه كامل، فكان لا بد من وجود من يعمل في المصنع والمزرعة والجيش والورشة ومن يذهب إلى الساحة للتصويت.
• لكن حدثت ولادة ثانية للديمقراطية في ظل الحداثة الأوربية، ديمقراطية تمثيلية، أى هناك ممثلون للشعب، وتطهرت الديمقراطية من خطيئتها الأولي، فلقد كانت حكرًا على الأحرار من الرجال، بينما منعت الأرقاء والنساء من المشاركة والتصويت وحق الانتخاب.
• يؤكد طرابيشى أن الولادة الثانية للديمقراطية أضافت ثلاثة فضائل مهمة.
• أولًا: إنها جعلت السياسة حرفة (اخترعت السياسي).
• ثانيًا: إنها غيرت مقولة ( الأفراد) إلى مقولة (المواطنين) (للفرد حقوق وعلى المواطن واجبات).
•ثالثًا: غيرت وظيفة السياسة ولم يعد لها وظيفة غير حماية حقوق الفرد وفى مقدمتها:
أ- الحق في الحياة.
ب- الحق في الوجود.... حسب (هوبز).
ج- الحق في الأمن وعدم العدوان.حسب (لوك).
د- الحق في الحرية......... وفقًا (لروسو).
و- الحق في المساواة..... وفقًا ليورلاماكي.
• كذلك فإن الولادة الثانية للديمقراطية قدمت فلسفة (الحقوق) على فلسفة (الواجبات)
• قدمت (الفرد) قبل (المواطن)، وأدى ذلك إلى فضيلتين مهمتين.
• أولًا: اختراع فكرة (العقد الاجتماعي) بين الحاكم والمحكوم.
• ثانيًا: اختراع فكره (المجتمع المدني) باعتباره يمثل سلطة مقابلة لسلطة المجتمع السياسي ويضمن عدم مجاوزة السلطة الحاكمة حدودها، فالتحول البشرى من الوجود الطبيعى إلى الانتظام في الوجود الاجتماعي والسياسى المتمثل في (دولة)، والدولة سلطة وأى سلطة تسعى إلى مراكمة السلطة وتجميعها وزيادتها.
• لذا كان لا بد من اختراع المجتمع المدنى القادر على تمثيل سلطة في مقابل سلطة جامعة قد تتغول على الفرد وتسحقه.
• يقدم طرابيشي.. تعريفًا للمجتمع المدنى مبهرا.
(المجتمع المدنى هو: مجال لممارسة السياسة عن طريق غير طريق السياسة).
• الدولة الشمولية... بإلغائها للمجتمع المدني.... ألغت المجتمع السياسى نفسه.