لا يوجد نظام اقتصادى مثالي، وحتى في زمن الفلاسفة اليونانيين، فان المدينة الفاضلة التى حلم بها أفلاطون، ويعيش فيها الجميع في سعادة ورفاهية، لم تتحقق على الأرض. ولكن شهدت المجتمعات البشرية عدة انماط من النظم الاقتصادية، وكان لكل نظام مميزاته وعيوبه. ومنذ مطلع القرن العشرين، انقسم الفكر الاقتصادى في العالم إلى نظامين أساسيين، هما النظام الرأسمالي، وهو نظام يعتمد على آليات السوق (العرض والطلب)، والتنافسية، وتحفيز الفرد للابتكار والسعى إلى تحقيق الأرباح، الذى تبناه الغرب بقيادة أمريكا وإنجلترا. والنظام الاشتراكي، وهو يعتمد على إدارة الدولة للاقتصاد، وتحكم السلطة المركزية في الإنتاج والتوزيع، وتشغيل الأفراد وإدارة المؤسسات، وهو النظام الذى تبناه المعسكر الشرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى (السابق) والصين. وهناك دولا أخرى اختارت نظاما مشتركا في شكل خليط من الرأسمالية والاشتراكية.
وفى مصر، وأثناء التوجه إلى الاشتراكية التى تبناها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، خاصة خلال حقبة الستينيات، صدرت حزمة من القوانين الاشتراكية، خاصة بالتعليم والصحة والعمل والتصنيع والتوظيف وغيرها، كانت مناسبة (في وقتها) للواقع المصري، وكانت منصفة للعمال والفلاحين، وحققت العدالة الاجتماعية، وسمحت للقطاع العام بتحقيق نمو اقتصادى والتوجه إلى التصنيع. وأصبح التعليم مجانا في كل مراحلة، ودخل الملايين من المصريين المدارس والجامعات، وتم توظيفهم في الحكومة والقطاع العام حسب قواعد ومزايا المرحلة، واستمر الحال على ذلك لعدة عقود، تكدست فيه المصانع والمدارس والجامعات ودواوين الحكومة بالملايين من الموظفين، دون توسع حقيقى في الأعمال، ودون أي إضافة إلى الإنتاج، ودون دوافع شخصية للابتكار، حيث إن الجميع متساوون، وأصبحوا عبئا ثقيلا على موازنة الدولة. وتضخم عدد الموظفين، بحيث أصبح هناك ترهل وظيفي، وبطالة مقنعة، وبمرور الزمن ظهر فساد وبيروقراطية وسوء في الإدارة وتفشت ظاهرة المحسوبية والرشوة. وأصبح لزاما على الدولة أن تتدخل لإصلاح الفشل الإدارى وقلة الإنتاج وزيادة العمالة والفساد، وبدأ العمال والموظفين المهرة في جميع المجالات في السفر إلى الخارج، بحثا عن مرتبات أكثر ومزايا أحسن وهنا حدثت المشكلات التى نعانى منها حتى اليوم.
ومع انتهاء حرب السادس من أكتوبر سنة ١٩٧٣، ومحو آثار العدوان، تطلع المصريين إلى حياة أفضل ومرتبات أعلى وخدمات أفضل.
وكان واقع الاقتصاد المصرى مؤلما، حيث كان هناك ترد في الخدمات وخسائر في معظم مؤسسات الحكومة والقطاع العام. وزادت أسعار البترول وازدادت معدلات نزوح العمال والمدرسين والأطباء المهرة إلى دول الخليج، وفى ظل الأزمة الاقتصادية في منتصف السبعينيات، تدخل الرئيس السادات رحمه الله، وأدخل الانفتاح الاقتصادي، لكى يدفع بالقطاع الخاص إلى المنافسة والإنتاج. ولكن القطاع الخاص كان أذكى من الدولة، وحقق أرباحا سريعة وسهلة، من مشروعات استهلاكية ودون إنتاج حقيقي. وحاول الرئيس السادات، في ظل عجز الموازنة، أن يرفع الأسعار أو أن يقلل الدعم على السلع الأساسية، ولكنه تراجع أمام مظاهرات الخبز في ١٨-١٩ يناير ١٩٧٧. وكانت هذه الأحداث نقطة فارقة في طريق الإصلاح الاقتصادى المصري، وبقيت الأسعار، والمرتبات لموظفى الدولة، على ما هى لثلاثة عقود بعد أحداث ١٩٧٧.
وبعد استشهاد الرئيس السادات ومجىء الرئيس مبارك سنة ١٩٨١، كانت مصر في وضع اقتصادى صعب، وحاول الرئيس مبارك مع رجال الاقتصاد، ومشورة البنك الدولي، إدخال إستراتيجية جديدة تسمح بحدوث انتعاش اقتصادى وزيادة في المرتبات وتحسين مستوى المعيشة خاصة للعاملين في الدولة. وكانت التوصيات التى جاءت إلى الرئيس مبارك كلها تصب في الاتجاه إلى اقتصاديات السوق، وتنمية القطاع الخاص، وإدخال التنافسية والحد من خسائر القطاع العام، وزيادة الأسعار تدريجيا، وتخفيض الدعم. ولكن الرئيس مبارك كان حريصا على استقرار الأوضاع الداخلية، وتجنب زيادة الأسعار أو تقليل الدعم واستفزاز الطبقة الفقيرة والمتوسطة.
وحتى عندما تيقن أن مؤسسات القطاع العام الخاسرة أصبحت عبئا على الاقتصاد، وبدأ في بيع القطاع العام فيما عرف ببرنامج الخصخصة، حدث ما حدث وبيعت شركات القطاع العام بأقل من قيمتها الحقيقية، واستمرت الخسائر واستمر الوضع كما هو خلال الثمانينيات والتسعينيات، بدون عمل حقيقى أو مرتبات حقيقية، بالرغم من تحقيق نمو اقتصادى في بعض السنوات وصل إلى ٧٪، خاصة أثناء رئاسة د. عاطف صدقى رحمه الله.
وكانت التوصيات التى قدمها البنك الدولى لمصر (عن طريق مندوب البنك د عبدالشكور شعلان)، هى نفسها التى قدمها أستاذ الاقتصاد في جامعة إكسفورد الإنجليزية (العراقى الياس كوركيس)، إلى الصين في نفس التوقيت تقريبا، وحققت بها الصين إصلاحا اقتصاديا مذهلا وسمتها سياسة الإصلاح من القاع إلى القمة. وشملت خطة الصين محاربة الفساد وتقليل الفجوة بين طبقات الشعب والاتجاه إلى اقتصاديات السوق، وزيادة المرتبات مقابل زيادة الإنتاج، وتنمية المشروعات الصغيرة.
ومع الفارق، فقد نجحت الصين في محاربة الفساد وفى تخفيض معدل الزيادة السكانية، بفرض طفل واحد لكل زوجين، في الوقت الذى فشلت فيه مصر في تحقيق أى نجاح في برنامج تنظيم الأسرة، وتضاعف تعداد السكان بمعدلات غير مسبوقة.
وفى نفس التوقيت تقريبا، انهارت الاشتراكية في الاتحاد السوفيتى بعد فشل ميخائيل جورباتشوف في إحداث إصلاحات على قوانين الاشتراكية (إصلاح من القمة إلى القاع، عكس السياسة طويلة الإجل التى تبنتها الصين)، بما سماه سياسة البيريسترويكا والجلاسنسوت، مما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفيتى وكل الدول التى كانت تدور في فلكه في أوروبا الشرقية. وبذلك تكون الاشتراكية كمنهج اقتصادى قد ماتت، ومات معها كل النظم الاشتراكية، ولم يتبق إلا الرأسمالية وسياسة الانفتاح الاقتصادى والتنافسية والسوق المفتوحة.
ومع استمرار العمل بنفس السياسات الاقتصادية القديمه في مطلع القرن الحادى والعشرين، ومع ضعف المرتبات في القطاع الحكومي، ونزوح أعداد أكبر من العمال والموظفين وأساتذة الجامعات إلى دول الخليج، ازدادت الفجوة بين طبقات الشعب المصري. ومع الركود الاقتصادى الذى واكب غزو أمريكا للعراق، وانسداد الأفق السياسى في مصر، حدث الانفجار الشعبى في ٢٥ يناير ٢٠١١. وتلتها مرحلة انتقالية شهدت عدم استقرار سياسى وتدهور اقتصادى مع توقف حركة السياحة، وصولا إلى تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي إدارة البلاد، وبداية برنامج الإصلاح الاقتصادي، والاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتحقيق نمو اقتصادي، وتخفيض معدل البطالة، وزيادة الاحتياطى النقدى في البنك المركزى لأول مرة منذ ٢٠١١.
ولكن بقيت المعضلة الكبرى وهي، كيف تدير بلدا بحزمة قوانين اشتراكية، ومرتبات ضعيفة وساعات عمل قصيرة في عصر التحول العالمى نحو الرأسمالية وآليات السوق؟ وكيف تصلح الجهاز الإدارى للدولة في ظل البيروقراطية والفساد الذى ظل عليه لعدة عقود؟ وكيف تتعامل مع العمالة الزائدة وقد اكتسبت مركزا قانونيا وترتب عليه نمط حياة لعدة ملايين من المصريين؟
وبالرغم من كل هذه التحديات، فقد كان لزاما على مصر ان تتجرع الدواء المر، وان تبدأ برنامج الاصلاح الاقتصادي، وان تزيد من المرتبات وتراعى ظروف الطبقات الأكثر فقرا وتنشأ مشروع تكافل اجتماعي، وهى تبدأ بزيادة الأسعار وتقليل الدعم.
وبالرغم من ان برنامج الاصلاح الاقتصادى المصرى قد نجح في احداث نمو اقتصادى بلغ ٥.٦٪، واقامة مشروعات كبرى في كل ربوع مصر، وتشجيع الاستثمار الخارجى وتقليل نسبة البطالة. وبالرغم من المجهود الجبار الذى تبذله الحكومة لتحسين مستوى المعيشه ومحاصرة الفساد، الا ان معدل الفقر قد ازداد ليصل إلى ٣٢٪ حسب اخر الاحصائيات الرسميه للجهاز المركزى للتعبئة العامه والاحصاء، وكذلك فقد ازداد الدين الخارجى إلى ١٠٤ مليار دولار.
ويبقى السؤال الاهم وهو: هل يمكن أن تستمر الدولة المصرية في العمل بحزمة قوانين اشتراكية حفاظا على السلم الاجتماعي، أم تتحول تدريجيا إلى نظام السوق وماتتبعه من زيادة الصغوط على الطبقات الفقيرة؟
وفق الله مصر إلى طريق النجاح والتقدم والرفاهية.