يكاد يكون أستاذنا أنيس منصور آخر العنقود في أجيال الظرفاء في تاريخ الفكر والإبداع.
يكاد يكون الفكر المتألق الذى احتفظ بمكانته وحضوره بين الأجيال.
أنيس منصور احتل مكانته بين العمالقة فهو الطبعة الحديثة لفكر العقاد والمحاور فاستطاع أن يدير حوارًا تاريخيًا مع طه حسين في وجود العقاد وجذب اهتمامه للأستاذ محمود أمين العالم لمكانته التى يستحقها وهو تلميذ الدكتور عبدالرحمن بدوى وغيرهم من المفكرين.
يكاد يكون القلم الرشيق الذى داعب الكبار وعطر الكلمات وثقافة الجملة واللحن المميز والتعددية ومواهبة التى أجلسته على عرش النجومية.
يكاد يكون العقل الصحفى الوحيد الذى يجيد أكثر من سبع لغات وإجادة لعدة لهجات إقليمية وأصدر مؤلفه الذى حاز على جائزة الدولة فهو ملك الأناقة الشخصية والفكرية وهو مكتشف نظرية هندسة التذوق في مختلف الساحات والميادين.
عرفت الكاتب الكبير في 2 أغسطس 1962م وقت أن تسلم مجلة الجيل من أستاذنا الكبير موسى صبرى الذى تربع بعدها على مقعد جريدة الأخبار وبكل أمانة هو أعظم عقلية بالصحافة المصرية من الناحية الحرفية والمهنية والإخراج، استطاع أن يصمم التبويب الذى يجعل من الصحيفة مادة غذائية وهو مكتشف المواهب بمقدمتهم أنيس منصور فالحديث عن أنيس لايكتمل إلا بالحديث عن موسى صبرى فهو الذى أتاح له الكتابة بالصحف وبفضله اكتشف مدرسة متميزة بمقدمتهم محسن محمد وأحمد رجب ومصطفى حسين وحسن شاه وأتاح الفرصة للعملاق عبدالرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس فهو من مدرسة جلال الحمامصي.
جاء أنيس منصور لرئاسة تحرير (الجيل) واكتشف جيلًا من الصحفيين منهم أحمد رجب ليكون نائبًا ومن الطاقم إبراهيم سعدة وعبدالعاطى حامد الذى كان يجيد فنون التنكر، ومن أبرز سماته الملاحقة المستمرة لتفاعلات الكلمة والقدرة على حسن توظيفها، وعلى مدى مسيرته قدم للكتابة العربية 29 كتابًا في أقل من عشرين عامًا وأربع مسرحيات ومن سماته هو كراهيته المطلقة للحسابات والحساب.
اكتشف والده تدينه وتذوقه الشعر وفى (كتاب القرية) بالمنصورة وحفظ القرآن الكريم وأجاد مختلف أعمال البيت.. نجم الابتدائية فكان الأول والتوجيهية كان الأول وفاز بجائزتين الأولى من نجيب الهلالى وزير المعارف والثانية من السفير البريطانى لاميسون لتفوقه في اللغة الإنجليزية وكان ترتيبه بالليسانس الأول وأشرف على دراسته العليا الدكتور منصور فهمى واعتذر عن قبول عرض للعمل بالجامعة العربية أو السلك الدبلوماسى واختاره الدكتور على الرجال للعمل في جريدة (الأساس) التى يرأس تحريرها، وبدأت نشر قصصه بصياغة سابقة لطبيعة الكتابة.. كلمات صريحة لها فاعلية السحر ومحصلة لقدرات رفيعة فهو يتقن اللغات كأبنائها فكانت جواز المرور نحو المدارس العلمية.. جمع بين الصحافة وتدريس الفلسفة وأول عنوان بالكتب (وحدى مع الآخرين) واختار له هذا العنوان المبدع كامل الشناوي.. حقق رقما غير مسبوق وهو 30 ألف نسخة أما الإبداع العالمى فكتاب حول العالم في 200 يوم.
قالت اليونسكو في تقرير إن كتبه أكثر الكتب العربية انتشارًا رغم ارتفاع سعرها في عصارة تجربة إنسانية وقال طه حسين «هذا كتاب ممتع حقًا فلا تنقص متعتك بل تزيد كلما تقدمت في قراءته».
نشر البهجة ومترجم فكر أهل القمة ورؤية جمعت بين السخرية وقيم الظرفاء ومنهج العلماء ونشر ثقافة متجددة في مقدمتها تحضير الأرواح من خلال تجربة (السلة) وأحدث هذا التوجه الإثارة والانتشار لكن تعدت حدود المباح وتحولت لظاهرة مقلقة يستحيل احتوائها وعجزت الميديا أيامها عن المواجهة وتركتب الأمر للقيادة السياسية.
نال أنيس منصور بعدها «ضربة جزاء» ونقل ثم عين رئيسًا للتحرير مرة أخرى لحاجة الساحة لهذا القلم الملىء بالحيوية فلا أريد أن أتحدث عن تجربتى مع العملاق لكن يكفينى فخرًا إنه كتب عن شخصى المتواضع بالقلم في جريدة الأهرام وهو تقدير اختصنى به حيث أصبحت بهذا التتويج وسامًا أعتز به يضاف لذلك أننى تلقيت مكالمة من العميد أبو الوفا سكرتير الرئيس مبارك وسألنى عما إذا كان يستطيع التحدث للأستاذ أنيس منصورر فأجبته وأبلغنى أن الرئيس مبارك يريد التحدث إليه فتركت موقعى للمكتب المجاور لكى أترك له الفرصة للتحدث وكعادة الرئيس يداعبه قائلًا سأبلغ سعيد سنبل استخدام إمكانيات أخبار اليوم لكى تقدم مقالاتك لتنشر في الأهرام، ورده الفورى دا بيتنا اتعودنا عليه.. واحترامًا لخصوصية المكالمة اعتذر عن نشر محتواها.
أنيس منصور دخل دوائر الحكم خاصة بعصر السادات لكنه لم يقترب من نيران السياسة حتى لايحترق ووقف بمفترق طرق بين الأجيال، بل كان يسبقها، من حسن حظه إنه ارتبط بالسيدة رجاء حجاج رفيقة المسيرة بل كانت تقودها بكم ثقافتها الرفيعة ورقى تفكيرها فهى ابنة شقيقة الوزيرين التوأمين زكريا توفيق عبدالفتاح الاقتصادى ومحمد توفيق عبدالفتاح الوزير والسفير الأسبق وكانت لعبة التوأم مبهرة لأنيس فعلاقاته العامة جزء من ثقافة خاصة الفنانين وبمقدمتهم أم كلثوم وعبدالوهاب وفايزة أحمد، وفى مناسبة دعاه حمدى عاشور لغذاء بمنطقة أبوقير وحضرتها سيدة الغناء ومدير الأمن وعدد محدود وتغيب أنيس منصور وحاول مدير الأمن استعراض عضلاته المعلوماتية فقال إن صاحب محل مكوجى في أبوقير كتب لافتة ترويجية على دكانه «مكوجى أنيس منصور يا زباين» وعندما حضر قال له حمدى عاشور.. نحن نستأذنك في إزالتها فارتسمت علامات الغضب قائلًا إذا كان اسمى يحقق دخلًا للبسطاء فإننى أرحب بل أننى سوف أقوم بتصوير المكوجى وأنشر موضوعا بعنوان «أنيس منصور يا زباين» فكانت واحدة من أروع مواقفه.
أنيس منصور مسلسل عميق الجذور لم تنشر حلقاته بعد.. صادق مع نفسه فهو بكل تواضع يقول إننى لست صحفيًا لكننى كاتب يشتغل بالصحافة.. رسالته الحرية بكل معانيها وفوجئت مرة يدخل المكتب منزعجًا يقول إزاى سايب مدير المرور بالإسكندرية يقرر فجأة تغيير خط سير المرور دون أن يسبقه استدراك، فهو يرى أن الخطأ الاتجاه الواحد بطريق الحرية.. وتساءل مستنكرًا كيف يوافق على أن تكون الحرية تسير في اتجاه واحد.. حرية إيه دي.. الحرية هى تعدد الاتجاهات فكيف طبقها بمنظوره!