الصدفة وحدها هى التى زامنت زيارتى إلى فيتنام مع احتفالها بعيدها الوطنى الذى صادف موعده الأول من أمس الأحد ٢ سبتمبر.. كنت أحمل لفيتنام الكثير من المشاعر الثورية.. وكم تعجبت لشعب مناضل ينادى زعيمه هوشى منه الثورى بلقب العم اللطيف.. كنت أحاول تصور كيف يكون الثورى لطيفا يهدر بصوته وسلاحه ضد الاستعمار ويخاطب أهل بلده بصيغة الأهل والأبناء فيرجحون وداعته ولطفه معهم على ثوريته ويلقبونه بالعم اللطيف.
وكم غنيت مع مولانا الشيخ إمام أغنية وداع هذا الرمز الفيتنامى الدولي. وكم رددت مع دندنات عود مولانا الشجية (ولما ذاع الخبر / واتأكد الإثبات / صاح السلاح في الحرس / قال.. هوشى منه مات / الحاكم اللى زهد / في الملك واللذات / والزاهد اللى حكم / ضد الهوى والذات).
تعرفت على هوشى منه في شريط كاسيت قديم تم تسجيله في حوش قدم قريبا من حى الحسين بالقاهره بصوت الشيخ إمام وكلمات نجم.. بعدها كان لا بد لى من قراءة كل ما يتيسر عن حرب فيتنام.
بعد نصف قرن بالتمام والكمال من تاريخ وفاته وفى قلب هانوى أقف متأملا شكل المعارك المتواصلة التى خاضها هوشى منه منذ بدايات القرن الماضى حتى وفاته في ١٩٦٩. معارك ستظل ملهمة للإنسانية والتحرر الوطنى ومقاومة الاستعلاء الغربى وغروره وفساده.. فيتنام وأبطالها وأشجار غاباتها الذين مرغوا أنف أمريكا في التراب بوحى من كلمات العم هوشى عندما وجه رسالة إلى الأمريكيين قائلا (يمكنكم قتل 10 منا مقابل كل واحد منكم لكن مع ذلك سنهزمكم وننتصر).
هذا اليقين الذى تكلم به الزعيم البارز لم يكن من فراغ فهو يعرف جيدا أن السلاح البتار في المعركة هو الإيمان بالقضية. وهكذا استطاع تسليح الجيش الفيتنامى الذى قاده الجنرال جياب رفيق عمر هوشى منه وساعده الأيمن وكانت الخطة المعلنة للعالم كله هى أن فيتنام ستخوض معركتها بأسلوب حرب العصابات وكانت الرسالة الواضحة للعالم كله هى أن فيتنام لن تستسلم.. لذلك جن جنون أمريكا فقامت بأبشع المجازر بالطيران فأبادت قرى بأكملها.. وما زال الناس هنا في العاصمة هانوى يتذكرون جريمة إبادة أكثر من خمسمائة فلاح فيتنامى في ضربة واحدة وبالرغم من ذلك لم يرفع الثوار الراية البيضاء بل خرجوا من الملاجئ التى حفروها تحت الأرض لينتقموا ويردوا كرامتهم وحقوقهم التى طالما نهبها الاستعمار الغربي.
المدهش هو أننا نعرف فقط جلال ورهبة المعركة الأخيرة في مواجهة الأمريكان بينما الحقيقة هى أن الأمريكيين لم يكن لهم موضع قدم في فيتنام على مدى منتصف القرن الماضى ولكن الفرنسيين هم الذين عاثوا في فيتنام احتلالا ونهبا للثروات ودارت المواجهات طوال هذه الحقبة ضد الفرنسيين ولما مالت الكفة لصالح الثوار وتأسست فيتنام الشمالية برئاسة هوشى منه جاءت أمريكا لتعتدى بحجة وقف المد الشيوعى وخرجت مكللة بالعار(هتش ونتش بعلو الصوت / عن أمريكا وهول أمريكا / زعموا الفانتوم شايل موت / سقط الموت وعلم أمريكا).. ملحمة بطولية نادرة للفلاح الفيتنامى صاحب القبعة الخوص الأسطوانية الشهيرة.. صاحب الوجه المتغضن بارز العظام والعيون الذكية.. ومن دروس تلك الملحمة هو ذلك الدرس الذى لقنته الأممية للعالم فعندما مدت الصين والاتحاد السوفيتى أياديهم لدعم ثوار فيتنام جاء النصر حاسما وواضحا.
يرى البعض أن هوشى منه الذى قاد تلك المعارك وهو في سدة الحكم حيث تولى رئاسة فيتنام الشمالية، لم يكن محظوظا لأنه مات وفيتنام منقسمة بين شمال وجنوب، ولكن الحظ ابتسم له بعد وفاته عندما استطاع رفاقه الانتصار وتوحيد الشمال والجنوب وإسقاط عاصمة الجنوب سايجون.. ولأن رفاق العم اللطيف هوشى منه قلوبهم صادقة ويعرفون معنى الوفاء فعند إسقاط سايجون على الفور أطلقوا عليها اسم زعيمهم ليتحول اسمها من مدينة سايجون إلى مدينة هوشى منه ويرتادها الآن ملايين السياح سنويا.
حكاية النزاع الفيتنامى وهوشى منه ومجد اليسار هى الأساس الذى استطاع أن يبنى دولة تسيطر الآن على المطر والغابات.. تلك الحكاية التى كانت حلما للزعيم هوشى منه ابن الفقراء الذى سافر أوروبا وهو لم يتجاوز العشرين من عمره ليعمل غاسلا للصحون ومساعد طباخ على سفينة ويتعلم أبجديات الصراع بشكل علمى وينخرط في صفوف الأحزاب حتى انتخابه في الكومنترن في العشرينيات بموسكو مسئولا عن ملف الدول المستعمرة ثم انطلاقة ليؤسس نواة الحزب من الفيتناميين المهجرين في شتات الأرض ليعود بهم وقد بلغ عددهم عشرة آلاف مقاتل مكتسحا أوهام فرنسا وأمريكا ويلحق بهم الفضيحة حتى لحظة كتابة هذا المقال.
أشعر الآن بفخر يملأنى أننى زرت ضريح هذا العم اللطيف وتكلمت معه.. أخبرته عن حال بعض الدول التى لا تعرف كما عرف قيمة مواطنيها وتدعى العجز أمام غاصبيها ومحتلى أرزاقها وكأنه القدر المحتوم. ولا يعرفون أن هناك رجلا وقف ضد أقوى الأسلحة والأنظمة بأجساد أهله وعزيمتهم.
نسيت أن اقول لكم.. عند ميلاد العم اللطيف لم يطلق عليه أبواه اسم هوشى منه ولكن تم اختياره له كاسم حركى عند بداية تأسيس الحزب ومعناه المشرق أو المستنير.. ولم يرجع العم اللطيف إلى اسمه الحقيقى حتى وفاته.
هوشى منه لك المحبة وعليك كل السلام.