نستكمل فى مقال اليوم ما بدأناه الأسبوع الماضى عن صراع الغاز فى العالم بين القوى الدولية ومحاولتهم السيطرة على منابعه بشتى الطرق، حيث وصلنا إلى أن واقع الحال يؤكد أن الصلات الاستراتيجية عبر الغاز تجعل الصلات أكثر استراتيجية فى قطاعات السياسة، وفى النموذج الذى نتحدث عنه هنا نجد أن تأثير موسكو يمتد على الحزب الاجتماعى الديمقراطى الألمانى فى ويستفاليا شمالى نهر الراين؛ حيث توجد القاعدة الصناعية الرئيسية لفرعى شركتى (RWE) و(E.ON) للكهرباء المرتبطة مع روسيا ارتباط وثيق.
وهذا التأثير يعترف به الجميع فى ألمانيا، إذ إن رئيس قسم سياسات الطاقة فى حزب الخضر هانس جوزيف فيل، قد أكد أن أربع شركات ألمانية على صلة بروسيا تلعب دورًا فى صياغة سياسة الطاقة الألمانية عبر شبكة معقدة جدًا تقوم بالضغط على الوزراء وتحتكر الرأى العام، وذلك عبر هيئة العلاقات الاقتصادية الشرق أوروبية التى تمثل الشركات الألمانية، والتى على اتصال وثيق بأعمال تجارية فى روسيا ودول كتلة الاتحاد السوفييتي السابق.
هنا، فإن ما يجعل ثمة صمت (لا بد منه) تتبعه ألمانيا إزاء ما يجرى من نفوذ روسى متسارع، أساس هذا الصمت الاعتراف بأن ثمة ضرورة لتحسين ما يسمى (أمن الطاقة) فى أوروبا.
اللافت إلى أن ألمانيا باتت تعتبر أن سياسة (التمرير) المقترحة من الاتحاد الأوروبي لتغطية أزمة اليورو ستعيق الاستثمارات (الألمانية - الروسية) بشكل طويل الأمد. وهذا السبب ما - يقف مع غيره من الذرائع - وراء التمهل الألمانى فى إنقاذ اليورو المثقل بديون الأوروبيين.. بخلاف ألمانيا وكتلتها الجرمانية التى تستطيع تحملها وحدها دون غيرها.
وفى كل مرة يعاند فيها الأوروبيون ألمانيا وسياستها مع روسيا (الطاقية)، تؤكد برلين أن خطط أوروبا (يوتوبية) غير قابلة للتنفيذ، وقد تدفع روسيا لبيع غازها فى آسيا. وهذا سيطيح بالأمن الطاقى فى أوروبا.
وواقع الحال أن هذا الاشتباك الروسى - الألمانى لم يكن من النوع الساذج، عندما استثمر (بوتين) تراث الحرب الباردة من وجود روسى للناطقين بالروسية فى ألمانيا، والبالغ عددهم ثلاثة ملايين، وهم يشكلون ثانى أكبر جماعة بعد الأتراك، إضافة إلى شبكة من المسئولين الألمان الشرقيين الذين تم توظيفهم لرعاية الشركات الروسية فى ألمانيا ومصالحها، فضلًا عن عدد من عملاء جهاز أمن الدولة الألمانى الشرقى السابق، ومنهم على سبيل المثال، مدير جرمانيا غازبروم لشئون الموظفين وشئون التمويل، ومدير اتحاد (السيل) المالى هاينس وورينج، وهو ضابط سابق فى جهاز أمن الدولة الألمانى الشرقي.
ولكن للإنصاف، فإن واقع الحال يقول: إن استثمار روسيا للعلاقات السابقة، لم يكن فجًا بل كان لمصلحة ألمانيا ككل، الأمر الذى لم يجعل الصدام ممكنًا باعتبار أن المصلحة بين الطرفين متحققة دون هيمنة.
نعود ثانية إلى مشروع السيل الشمالى الذى يشكل عنصر الربط الرئيسى بين روسيا وألمانيا. وتبلغ تكلفة خط الأنابيب ٤.٧ مليار يورو، وقد تم تدشينه مؤخرًا. وعلى الرغم من أنه يصل روسيا بألمانيا، إلا أن إدراك الأوروبيين أن هذا المشروع سيكون جزءًا من الأمن الطاقى قد جعل هولندا وفرنسا تسارعان لإعلانه مشروعًا أوروبيًا، حتى إنه فى لجنة العلاقات الاقتصادية لأوروبا الشرقية سرعان ما أعلن ذلك دون أى خجل أو تردد: «إن هذا مشروع أوروبى وليس ألمانيًا، ولن نسمح لألمانيا أن تعتمد اعتمادًا كبيرًا على روسيا». وهو تصريح يدلل على الخشية من النفوذ الروسى المتنامى فى ألمانيا، إلا أنه ليس أكثر من هذا، إذ إن مشروع السيل الشمالى يعكس هيكليًا خطة موسكو وليس خطة الاتحاد الأوروبي.
وهنا سيتمكن الروس من إيقاف إيصال الطاقة إلى بولندا ودول أخرى حسبما يشاءون وسيتمكنون من بيع الغاز لمن يدفع أكثر. لكن أهمية ألمانيا بالنسبة لروسيا تكمن عمليًا فى أنها تشكل نقطة لانطلاق استراتيجيتها عبر القارة، حيث تمتلك جرمانيا غازبروم أسهمًا فى ما لا يقل عن خمسة وعشرين مشروعًا مشتركًا فى بريطانيا وإيطاليا وتركيا والمجر وغيرها. وهو ما يهيئ فعليًا للقول إن غازبروم ستصبح (بعد قليل) أكبر شركات العالم إن لم تصبح أكبرها إطلاقًا.
لم يكتف قادة غازبروم ببناء مشروعهم هذا فقط، بل إنهم تداخلوا مع مشروع غاز نابوكو والذى شكل تحديًا كبيرًا إذ قامت غازبروم التى تمتلك ٣٠٪ من المشروع لبناء خط أنابيب رئيسى ثان يصل إلى أوروبا على خط نابوكو (نفسه) وهو مشروع تعلن فيه غازبروم عن تشابك سياسي، أو لنقل بصراحة، مزايدة سياسية بهدف إظهار عضلاتها من خلال إيقاف العمل بخط نابوكو أو تعطيله.
والحقيقة أن موسكو لم تكتف بذلك، فقد سارعت لشراء غاز آسيا الوسطى وبحر قزوين عبر مناقصة لإبعاده عن العمل بخط أنابيب نابوكو مستخدمة كل أنواع السخرية السياسية - الاقتصادية - الاستراتيجية من واشنطن.
فى سياق كل ما سبق، تقوم غازبروم بتشغيل منشآت للغاز فى النمسا، وذلك فى المحيط الاستراتيجى الجرماني، كما أنها تؤجر منشآت فى بريطانيا وفرنسا. إلا أن منشآت التخزين المتزايدة فى النمسا ستكون محورًا لرسم الخارطة الطاقية لأوروبا فى جزء مهم، إذ إنها ستزود الأسواق السلوفينية والسلوفاكية والكرواتية والمجرية والإيطالية وبعضًا من الألمانية بالتضافر مع مخزن أُعِدَّ حديثًا يدعى (كاترينا) تقوم شركة غازبروم ببنائه بالشراكة مع ألمانيا لتوريد الغاز إلى مراكز أوروبا الغربية.
وقد أقامت شركة غازبروم مشروع منشأة تخزين مشتركًا مع صربيا لتصدير الغاز إلى البوسنة والهرسك وجزء من النمسا، فضلًا عن صربيا نفسها. وقد أجريت دراسات لجدوى اقتصادية لعدد من مشاريع التخزين المماثلة فى جمهورية التشيك ورومانيا وبلجيكا وبريطانيا وسلوفاكيا وتركيا واليونان وحتى فرنسا. وبهذا ستحصن موسكو موقعها كمزود لـ٤١٪ من احتياجات أوروبا للغاز ما يعنى تغييرًا جوهريًا فى علاقات الشرق بالغرب على المدى القريب والمتوسط أولًا ثم البعيد ثانيًا. وهو ما يعنى تراجعًا للنفوذ الأمريكى أو صدامًا يُهيَّأ له فى أحد جوانبه بالتضافر مع اعتبارات الدرع الصاروخى لتأسيس نظام عالمى جديد سيكون (الغاز) فى صلب عوامل تشكيله. وهذا ما يفسر حجم الصراع فى منطقة شرق المتوسط على الغاز الجديد فى شرقى حوض البحر الأبيض المتوسط.