الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تاريخ الإعلام الساخر.. وخِفة دم المصريين «3»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تهتم الكتابة الساخرة بالنقد الاجتماعى اللاذع القائم على السخرية من الأوضاع السلبية فى المجتمع، وتهدف إلى الكشف عن العيوب والسلبيات وإبرازها وتضخيمها ونقدها بقسوة، ويرى البعض أن الكتابة الساخرة أكثر دلالة علينا وعلى نفسيتنا من كثير من الأدب الفصيح، وأن مصر وشعبها ممثلان فى هذا الأدب الضاحك بأكثر وأقوى مما فى الأدب الفصيح الخالى غالبًا من الضحك والهزل، لسبب بسيط، وهو أنه ينبع من صميم الشعب وينطق عن روْحه ومزاجه دون أى تصنع أو تكلف.
ويشير الناقد إبراهيم فتحي، إلى أنه لا يوجد تضاد بين السخرية والجدية، فالسخرية تواجه الجدية المتصلبة الجامدة وتقدم وجهة نظر عميقة وليست مجرد عبث طائش أو خِفة مرحة. ويرى د. ماهر شفيق فريد، أن السخرية تقع على نقطة ما بين مَلَكتيْن تقتربان منهما أحيانًا وتبتعدان أحيانًا أخرى: الفكاهة من ناحية والهجاء من ناحية أخرى. 
والسخرية نوع من التأليف الأدبى يقوم على أساس الانتقاد للرذائل والحماقات والنقائص الإنسانية، أو التقليل من قدرها أو جعلها مثيرة للضحك بهدف التخلص من الخصال والخصائص السلبية. والسخرية قد توجه نحو الشخص وليس صفاته. والسخرية شكل من أكثر أشكال الفكاهة أهميتها وهدفها مهاجمة الوضع الراهن فى الأخلاق والسياسة والسلوك والتفكير، الذى يكون عادة مُحَصّلة لممارسات عدة خاطئة سابقة، مما ينذر بأخطار ينبغى التحذير منها. 
ويرى د. شاكر عبد الحميد، أن الفكاهة تشكل المفهوم العام أو الظاهرة العامة للسخرية، وتشتمل على الضحك والابتسام والتهكم والتورية والدعابة والنكتة والمفارقة والكاريكاتور والحماقة والكوميديا وغيرها من المظاهر الدالة على الفكاهة.
تنهل الكتابة الساخرة فى مصر من موروث شعبى شديد الثراء والتنوع، وتوجه سهامها إلى السلبيات وتضع نفسها فوق موضوع السخرية وفى تضاد معه، وتستخدم تقنيات عدة من أهمها ما يلي:
- التصوير الكاريكاتورى، ويبرز بروزًا شديدًا فى الكتابة الساخرة، حيث المبالغة فى تضخيم بعض السمات السلبية الواضحة، وقد يقتصر الأمر على سمة واحدة، دون حرص على التوازن فى التشابه بين الأصل والتشويه المتعمّد للسمة البارزة، وتتحول الشخصية بذلك إلى نمط نموذجى أو إلى قالب يشبه الدمية.
- المحاكاة الساخرة بمعارضة قصائد رصينة وإنزالها من مرتبتها السامية إلى لغة الحياة العادية، أو محاكاة نماذج معينة من الكتابة والكلام عند بعض أدعياء السياسة والثقافة، أو المحاكاة الساخرة لأسلوب الحكاية الشعبية.
- السخرية الدرامية بكل أشكالها التى تجسد المفارقات فى مواقف حافلة بالتناقض، وتفاجئ الشخصيات التى تسخر منها فى حالة تلبس، وتستدرج القارئ من مسلمات تبدو راسخة إلى اتجاه معاكس، وقد تنتهى بنظرة نقدية شاملة.
بدأت الصحافة الساخرة فى مصر فى الخامسِ والعشرين من مارس عام ١٨٧٨، لتكون البداية لانطلاق لون خاص فى الصحافة المصرية أطلق عليه «الصحافة الساخرة»، وذلك على يدى يعقوب صنوع، وكانت هذه هى السطور الأولى التى خطت بصحيفته «أبى نظارة زرقاء» إلى هذا المجال الجديد:
«إنه كما كان لكل مائدة فاكهة تخفف ثقل الأغذية، كذلك لا بد لموائد العقول من فاكهة تخفف عن العقل أتعابه.. فأهل أوطاننا وإن كانوا نالوا من العلوم والمعارف ما قد نالوه، إلا أنهم فقدوا فاكهة تسليتهم عند كلال عقولهم وتعبها، فمن أجل هذا رأينا أن ننشر جرنالًا يشتمل على ذكر الوقائع بوجه يزيل عن النفوس بؤسها، ويريحها من أتعاب إحساساتها، على أنه ليس الغرض منه مجرد الضحك، بل الاشتمال على الحكم والمواعظ الحسنة».
وهذا اللون من الصحافة الساخرة أجمع الباحثون والمختصون على أن له مكانته المتميزة والمؤثرة، لما يتركه من أثر فاعل على المتلقي، قارئًا مهتمًا، أو مختصًا أو متابعًا عابرًا. تكمن مفاتيحه من المصاهرة والملاقحة بين الواقع والحلم عبر تقديم أفكار فانتازية لا تخرج عن الواقع مرة والحلم أخرى، حيث اتسم هذا النوع من الصحافة بالنقد الساخر اللاذع، فكانت مقالاته ورسومه الكاريكاتورية، السلاح الذى رُفِع بوجه الظواهر السلبية، وساهمت فى التصدى لكل ما هو فاسد بأسلوب ناقد ساخر جريء، على الرغم من الظروف التى أحاطت به والقيود التى فرضتها قوانين المطبوعات أو تعليمات السلطات، فلم تترك الصحافة الساخرة مجالًا دون أن تنفذ إليه وتمارس دورها كرقيب شعبى يرصد الأخطاء ويفضح المفاسد ويعرِّى المفسدين، كما كان لها دور فى ترسيخ مبادئ صحفية أثمرت عن مكافحة الكثير من الأمراض السياسية والاجتماعية وغيرها التى نخرت فى جسد البلاد وأحدثت خللًا فى منظوماته القيمية والمعرفية.
كان ظهور هذا اللون الساخر فى بادئ الأمر فى الصحافة الغربية انطلاقًا من رؤيتها لدور رسّامى الكاريكاتور فى الصحافة، وبعد أن تبين الأثر البالغ الذى تتركه النكتة أو المفارقة فى الرسالة الإعلامية من خلال تلك الرسوم، كان لذلك دور كبير فى تحويل ذلك الرسم الساخر إلى كتابات ساخرة تمس مختلف السياسات فى الدولة الواحدة، وتلامس تحركات السلطة فى جميع الاتجاهات، ثم حاولت الصحافة العربية تقليدها والتأثر بها، فولدت الصحافة الساخرة فى المنطقة العربية، بميلاد الصحافة الساخرة فى مصر، والتى تميزت، بالنقد اللاذع البارع الذى أبدعه (يعقوب صنّوع) فى جريدته (أبى نظارة زرقاء) كلامًا ورسمًا، والذى وصف بأنه «سيد الساخرين» فى العصر الحديث.
ظهرت إبداعات صنّوع الساخرة بدايةً فى المسرح؛ حيث أرخ معاصرو مسرحه أنه أول من أسس المسرح العربى، وجعله منبرًا ليعبر به عما يختلج فى أعماق نفسه من انفعالات، فأضحك الناس حين طرب قلبه، وأبكاهم حين سالت دموعه الصادقة على وجنتيه، وكانت ملاحظاته لاذعة وبعض مرحه ساخرًا، وكانت حين تنبض نفسه بالألم لما يراه مسرحه من حياة مواطنيه البائسين الشاكين، يتقمص فى جسمه جنس مسرحه العربي، ليعلن عن مواطنيه ويمثلهم، ويحكى آمالهم وآلامهم، حتى رأت الحكومة أن ضحكاته مثيرة للخواطر، ودموعه مهيّجة للأفكار، خاصةً بعد أن قدم مسرحية (الوطن والحرية) التى أثارت غضب الخديو إسماعيل لأنه سخر فيها من فساد القصر، فأغلق مسرحه. ظنت الحكومة أنها بإغلاق مسرح صنوع حبست لسانه من أن ينطلق على خشبة المسرح، ولكنها أغفلت أن له قلمًا سوف يطلقه على مسرح الحياة بعد أن أسس جريدته (أبى نظارة زرقاء) التى استكمل فيها إبداعاته الساخرة، فكانت أول صحيفة فى الوطن العربى تتسم بهذا الطابع، واتخذها منبرًا لمحاربة الفساد الذى تفشّى فى عصر إسماعيل والتدخلات الأجنبية، مما خلق روحًا ثورية تسببت فى إغلاق صحيفته ونفيه إلى فرنسا فى ٢٢ من يونيو ١٨٧٨، ولكنه عندما وصل إلى باريس مضى فى طريق إصدار الصحيفة التى ساندت الحركة الوطنية، وحاربت الفساد والاحتلال البريطاني، واستطاع أن يوصلها إلى مصر، ولكنها كثيرًا ما أُعدمت قبل دخولها فاضطر إلى تغيير اسمها عدة مرات ليضمن دخولها. 
وأيًا كان الأمر، فإن الصحافة الساخرة قدمت لجمهورها سلاحًا ورقيبًا شعبيًّا يرصد الأخطاء ويفضح المفاسد ويحارب المحتل منذ نشأتها وحتى اليوم.